بعد سلسلة المقالات التي كتبتها في صحيفة «الوطن» حول احتمالات المصالحة السورية التركية، والديناميات التي قد تحركها، والعوامل المباشرة وغير المباشرة لهذا التحول ومن هذه المقالات: «هل تبدو عودة العلاقات السورية التركية ممكنة؟»، ومقال يوم الخميس الماضي بعنوان «هل ستُفتح البوابة السورية التركية؟»، كما تناولت في مقال آخر موضوع اللاجئين «ديناميات غير مرئية.. التعريب في مواجهة التتريك؟»، ظهرت ردود أفعال متباينة بعضها محق ومنطقي، وبعضها الآخر غير موضوعي، ويعتمد منهج تفكير يقوم على القطعية بين الأبيض والأسود، وأما ردود الأفعال المنطقية فقد تركزت على ما يلي:
– لا يمكن الوثوق بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتصريحات مسؤوليه انتخابية.
– ما الذي يضمن التحول الذي يجري الحديث عنه، وجديته؟
– أردوغان براغماتي، ويكذب في توجهاته.
– هناك تناقض في التصريحات التركية لا توحي بالارتياح.
– ما يجري في الشمال من استمرار القصف التركي للقرى السورية، وآخرها استشهاد جنود سوريين، وصدور بيان عسكري يقول: إنه سيتم الرد على أي اعتداء تركي، وهو ما حصل.
– التصريحات التركية المتتالية حول المصالحة مع ما يسمونه المعارضة السورية، واعتبار ميليشيات «قسد» إرهابية، في حين من هم في إدلب معارضة معتدلة يجب التفاوض معها، وهو أمر يدعو للشك والريبة.
أطراف أخرى، كتبت أنه لا إمكانية لمصالحة سورية تركية، وأن أردوغان لن يصالح الرئيس بشار الأسد مهما حصل، والخيار هو في انتظار سقوطه الانتخابي، الذي تؤشر له استطلاعات الرأي العام حسب قولهم، وتصديق كمال كيلتشدار أوغلو وشركائه في المعارضة فيما طرحوه من تصور، وحل لقضية اللاجئين من خلال التفاوض المباشر مع الدولة السورية، كما أعلن، إضافة إلى التأكيد أن المصالحة شبه مستحيلة!
في كل الأحوال أنا لست من الذين يغلقون باب النقاش والحوار، وإبداء الرأي في قضية حساسة ووطنية فيها من الآلام والدماء والدموع والشهداء والجرحى الكثير، وفيها ذكريات أليمة وقاسية، وفيها مقاومة صلبة وشجاعة للسوريين بكل مكوناتهم، وما أكتبه في «الوطن» السورية هي آراء شخصية لا تُلزم أحداً، لكنها نابعة أيضاً من مبادئ مغروسة في أرواحنا، دافعنا عنها جميعاً طوال عقد ونيف من الزمن، والآراء التي نطرحها أمام الرأي العام السوري هي محاولة متواضعة للإحاطة بهذه التحولات، وعواملها العلمية، والواقعية والموضوعية بعيداً عن لغة التشنج والمزايدة، لأن هدفنا المشترك هو إيجاد المخارج والحلول، وإن أردتم مساعدة أصحاب القرار في التمهيد لهذه التحولات عبر تنوير المجتمع، والرأي العام بما سيحدث، وأسبابه من منطلق تحليلي قد يخطئ وقد يصيب، لكنه لا يلزم أصحاب القرار، ويجب أن نعتاد في سورية على هذا النمط من الطرح المسؤول عبر صحفنا، وخاصة في القضايا الوطنية الكبرى.
الآن سأطرح سؤالاً للتفكير به: هل سيسير هذا التوجه الجديد بين سورية وتركيا بسلاسة دون منغصات ودون عراقيل ودون تصريحات تريد قطع الطريق، وإبقاء الأمور على حالها لنتآكل ببطء من دون حلول وتحركات تخفف الاحتقان؟!
جوابي هو: نعم، هناك متضررون كثر من هذا التحول الذي يجري، ولتقريب المسألة سأذكر حادثة توضح كلامي، ففي 19 كانون الأول 2016 تمّ اغتيال السفير الروسي في أنقرة المرحوم أندريه كارلوف خلال زيارته لمعرض فني في العاصمة التركية، وجرت عملية الاغتيال قبل يوم واحد من انعقاد لقاء ثلاثي روسي تركي إيراني لوزراء الدفاع والخارجية لبحث المسألة السورية، كما أن حادثة الاغتيال وقعت مع خروج آخر الإرهابيين من مدينة حلب، وبعد عملية دبلوماسية مكثفة قامت بها أطراف عديدة من الأتراك والروس لإعادة مسار العلاقات التركية الروسية إثر إسقاط الطائرة الروسية في 24 تشرين الثاني 2015.
عندما ندقق بالتواريخ المذكورة وطريقة التعاطي سنجد ما يلي:
– إن اغتيال سفير دولة عظمى يمكن أن يتسبب بحرب بين بلدين، لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال آنذاك: إن الجريمة بلا شك استفزاز يهدف لإفساد تطبيع العلاقات الروسية التركية، وإفساد عملية السلام السورية التي تدفعها روسيا وتركيا وإيران، وأكد أن المهم أن نعرف من الذي يوجه «يد القاتل».
– جاءت عملية الاغتيال بعد الهزة التي أصابت العلاقات بين موسكو وأنقرة إثر إسقاط الطائرة الروسية.
– كان من ثمار التقارب الروسي التركي الجديد إنهاء وجود الإرهابيين في حلب، والانتقال لمرحلة جديدة، أسست لمسار أستانا لاحقاً.
– القاتل الذي اغتال السفير الروسي اسمه مولود الطنطاش، وهو عنصر في جهاز مكافحة الإرهاب في الشرطة التركية، وهو الجهاز الذي كان يتمتع فيه فتح اللـه غولين بنفوذ كبير، واعتقل هذا العنصر بسبب الاشتباه باشتراكه في محاولة الانقلاب على أردوغان في تموز 2016، ثم أطلق سراحه، كما تبين أنه زار قطر عدة مرات، واستخدم عبارات خلال عملية الاغتيال مثل «الله أكبر»، «لن ننسى حلب»، «لن ننسى سورية»، وهو ما يؤشر إلى انزعاج جهات دولية عديدة وإقليمية من التحول في حلب، وخاصة أن قناة «الجزيرة» القطرية ربطت بين الاغتيال وسفك الدماء في سورية وحلب على حد زعمها.
إذاً هناك أطراف دولية، وأدوات داخلية تركية، كانت تريد قطع الطريق على التقارب التركي الروسي بأي شكل، وقطع المسار الجديد الروسي الإيراني التركي الذي وصل لاحقاً إلى أستانا.
اللافت في الأمر الآن أن الأطراف نفسها التي كانت تريد قطع المسار الروسي التركي، هي نفسها التي تعمل الآن على قطع الطريق أمام أي تقارب سوري تركي، منها رئيس حزب المستقبل حالياً ووزير الخارجية التركي ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، وقال بعد قمة بوتين أردوغان في سوتشي في 5 آب الجاري إن روسيا تدفع تركيا لإجبارها على التطبيع مع النظام، وإعطاء شرعية له، وتابع كلامه: «هذا النظام مجرم، واستخدم الكيميائي ضد شعبه»، وكأنه مازال يعيش في أجواء عام 2011 و2014، كما أنه أحد أكثر الأطراف المنزعجة من أي تقارب سوري تركي، وهو جزء من تحالف المعارضة التركية التي لم تعلق على تصريحاته.
بالمناسبة والتذكير فإن أحمد داود أوغلو هو من أعلن عن إسقاط الطائرة الروسية، وقتل طيارها في تشرين الثاني 2015، وقال آنذاك: لو أتيح لي الأمر مرة أخرى سوف أسقطها!
كما أن داود أوغلو هو الرجل الوحيد الذي عبرت وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق هيلاري كلينتون والبنتاغون عن انزعاجهما الشديد من طرده من موقعه، وقالوا آنذاك: «لقد طرد رجلنا في تركيا».
إن شرح هذه الخلفيات التي هي شأن داخلي تركي بالطبع، هدفه العمل على ربط الأمور ببعضها بعضاً، كي ندرك أن التحولات المهمة لا تتم بسلاسة وهدوء، وأنها تحتاج إلى إرادة قوية، وعقل بارد، خاصة وأن المتضررين كثر، والملفات معقدة وصعبة، لكن بتقديري لابد من السير في هذا الطريق على وعورته وتعقيداته، لكنه طريق يحتاج للصبر والهدوء، والأمثلة التي قدمتها هي فقط للتدليل على النفس الذي اتبعته موسكو إثر اغتيال سفيرها، إذ أدركت أهداف الجهات المعادية وأحبطتها على الرغم من مصاب وألم اغتيال سفيرها.
الصراع داخل تركيا يتم الآن بين اتجاهين رئيسيين اتجاه أوراسي كان صغيراً وتوسع لاحقاً، يتحدث عن أن توجه تركيا المستقبلي يجب أن يكون مع روسيا والصين وإيران، ودول جوارها، وهذا فيه مصالح كبيرة لتركيا، واتجاه آخر أطلسي يرى أن تركيا يجب أن تبقى في توجهاتها الأساسية مع الغرب وأوروبا، وأن مصالحها مع هذه الكتلة العالمية وليس مع الكتلة الصاعدة، ويمثل هذا الاتجاه المعارضة التركية الحالية، التي يسمونها في تركيا «معارضة بايدن»، الذي كان قد أعلن منذ وصوله للسلطة أنه سيسقط أردوغان ديمقراطياً عبر دعم المعارضة التركية.
حلفاؤنا الروس والإيرانيون، وكذلك الصينيون، لا يرون في المعارضة التركية ورقة يمكن التعويل عليها، ولهذا نجدهم يدعمون بشكل واضح جداً أردوغان اقتصادياً وسياسياً، وينسقون الكثير من التحركات، بما في ذلك ما يخص العلاقة مع دمشق التي هي مفتاح أساسي لهذه التحولات الكبرى.
ما هو مطلوب من أنقرة بعد تصريحات مسؤوليها المتتالية، هو الانتقال من الأقوال إلى الأفعال بشكل مدروس ومطمئن لدمشق التي لا تزال لديها شكوك محقة تجاه السياسة التركية، قبل أن يُكثر المتضررون من وضع العصي في العجلات، وهو أمر ليس في مصلحة التوجهات الجديدة، خاصة وأن موقف سورية قوي، ويستند إلى تضحيات هائلة وينطلق من مطالب محقة لن نتنازل عنها.