التنافس أمر طبيعي في الحياة، يتنافس المتنافسون للوصول إلى أمرين حتميين أولهما ذاتي يتعلق بالمتنافسين، وتحقيق الشخصية، وتحقيق الذات واستقرارها، وثانيهما يتعلق بالمحيط، حيث يسعى التنافس لترك بصمة جميلة هادئة في المجتمع علمياً أو ثقافياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً.. وهذه البصمة تدوّن باسم صاحبها، فالروائي يتنافس بشكل كبير لترتيب الوضع الاجتماعي، تشريحه وبيان ما فيه من شوائب، ومحاولة أن نصل إلى مستوى أفضل، وتجنب تلك الشوائب.. والباحث الاجتماعي يأخذ نصيبه الفردي ويقدم في الوقت نفسه حلولاً اجتماعية مهمة.. إن وجد من يستمع إليه! ومراكز الأبحاث فيها باحثون كثر، هؤلاء يحققون ذواتهم واستقرارهم الذهني والمادي لتقديم نتائج أبحاثهم وقوائمهم لمجتمعاتهم، ما يدفع في المجتمع دماء جديدة، ويشير إلى دم جديد مهم كان نتيجة طبيعية لأبحاث استهلكت أموالاً طائلة، وأحرقت جهوداً كبيرة لمجموعة الأدمغة.. وفي مراكز الأبحاث والمراكز العلمية يعمل القائمون على استقطاب الأدمغة القادرة على إعطاء الشيء الجديد والرؤية المختلفة، وفي هذا الجانب نجد في المجتمعات المتقدمة مراكز الأبحاث تتابع أي طاقة مهما كانت، ولو كانت مجرد رؤية بسيطة للعمل على تطويرها لتصبح مميزة، وربما كانت هذه الرؤى مهمة للغاية يتم استيعابها واستقطابها لغاية المجتمع وتفوقه، وهذا الاستيعاب يحقق الجزء الفردي دون أي معاناة، ليبقى الباحث متفرغاً تفرغاً تاماً للبحث والإنجاز الذي يعود بالخير على المجتمع وسموه، ولا ينشغل الفرد بالقضايا الفردية الخاصة التي من الممكن أن تعيق التقدم العلمي والإنجاز، فلا نسمع عن أي معاناة في مراكز الأبحاث الكبرى في الدول المتقدمة يعانيها الباحثون لديهم، ولم أسمع من فوكوياما أو هانتنغتون أو سواهما في يوم عن معاناة مع الطعام واللباس والمسكن وما شابه ذلك، ولكننا رأينا كيف استطاع فوكوياما تطوير بحث اجتماعي عادي في دورية متخصصة إلى بحث كبير، وإلى سياسة دولة، وإلى سياسة عصر، وكذلك هانتنغتون.. من الأبحاث العادية التي تحمل فكرة، سواء أكانت من جهده أو من إيحاء جهة ما كما يصور كثيرون إلا أن النتيجة هي التي تعني أكثر من أي شيء آخر، ولم يأخذ هؤلاء من بريق السابقين، بل عمل السابقون على تبني آراء القادمين الجدد، وكانوا مناصرين لآرائهم لأنها تحقق المصلحة العليا لمجتمعاتهم.. ربما كان لمفهوم النظرية والتقدم العلمي السبب الأساسي، فعندما يشرق باحث أو أكاديمي في بيئة ما تمتلك مقومات التحضر، فإن المؤسسات ومراكز البحث تستقبل هذه الإشراقات، لا تتخلى عن الأسس القديمة التي أوصلت الحياة الفكرية إلى هذا المستوى، ولكنها لا تعيش الماضي وحده، بل تبحث في الجديد، فالنظريات الجديدة إمبريالية أو غير إمبريالية، كولونيالية أو ما بعدها، إن كانت هذه النظريات مخططة وممولة أم لم تكن، فإننا سنجد الدعم الكامل لهذه النظريات وللشخصيات التي تولد الأفكار وتستثمر فيها، وهذا بالطبع لا يلغي الأصول من داروين إلى أنشتاين وغاليلي وسواهم.. والطريف الذي رأيناه، سواء وافقنا عليه أم لم نوافق، ربما كان مبالغة، وربما كان حقيقة، فعند أزمة كورونا العالمية عاد داروين إلى الواجهة وتحدث كثيرون عن أصل الأنواع لأنها نظرية تقوم على التطهير والاختيار، بينما نحن العرب ما نزال نردد نقدنا للنظرية على أنها تسخر من الإنسان وخلق الله، وبأن الإنسان تطور عن قرد السلسلة العلمية متراشجة في المجتمعات القائمة على العلم، وإن كانت نظرية داروين عنصرية بحق وتعتمد على اصطفاء الجنس البشري، فما يجري من أبحاث عالمية حول الجينوم والمورثات والفيروسات يؤكد أن السلسلة العلمية مترابطة ترابطاً مذهلاً.
ونحن ما نزال نغني ابن الهيثم وابن النفيس، ونقيم احتفالات للفارابي وابن رشد وابن عربي، في الوقت الذي لا نقدم أعمالهم كما هي، ونعمل على صلبهم واتهامهم في عقيدتهم أو إنجازهم.. ولو جاء من يوازيهم أو يقترب منهم ليبني على ما أنجزوا فإننا لن نكترث له، وربما اتهمناه، وربما رجمناه، ونبقى نردد الغناء للماضي، ونستقبل القادم إلينا من العالم المتطور.
لا مجال للنهوض إلا بمراكز أبحاث عالية المستوى، تضع جدولاً زمنياً يطبق على المدى الطويل، وهذه المراكز هي التي تنقل السابق للاحق وهكذا حتى نقترب من منهجية البحث أولاً قبل مادته.. ولكن إذا كنا في حياتنا السياسية والاجتماعية والتنفيذية يأتي الشخص ليلغي السابق ولا يتابعه، فكيف نفعل في العلم؟!