من دفتر الوطن

مظاليم أم الخير

| حسن م. يوسف

لقبت الجزيرة السورية عندما زرتُها لأولِ مرة بـ«أمّ الخير» لأن أرضَها الكريمة تهَب الاقتصادَ السوري أقوى ثلاثة أضلاعٍ في صدرِه؛ النِفط والقمح والقُطن، وهي ككل المنتجين الحقيقيين، لا تنال الحصة التي تستحقُّها من مردود تلك الخيرات.

وقد كتبت غير مرة عن الأوضاع الصعبة في محافظاتِ الشمال، وخاصةً الحسكة، فقلت إن أبو الخير، أي الفلاح، لم يصبح بعد فلاحاً بالمعنى الدقيق للكلمة، فبعد نِصف قرنٍ من استثمار الأرض، وبعد الإصلاحِ الزراعي بعقود، مازال الفلاح يعتبر مجرد واضِع يد أو مستأجر في أفضل الحالات، ولا أدري ما إذا كانت هذه المظلمة قد رُفعت عن أبناءِ الجزيرة، أم أضيفت إليها مظالمُ الاحتلال التركي الغاشم. كما كتبت سابقاً عن التدهور البيئي في الحسكة نتيجة جفافِ الخابور الذي أدى لنقصِ المياه والتصحر، وسألت القائمين على الأمور: ما مسؤولية البلد تجاه أم الخير عندما ينحبس عنها الخير؟

ليس مصادفة أن المسرح يلقب بـ«أبي الفنون»، فكل مسرح يعبر عن حقيقةِ مجتمعه، لذا قيل قديماً أعطني مسرحاً أعطك شعباً عظيماً. وقد قدم أبناءُ أمِّ الخير إسهاماتٍ كبرى في الحياةِ الإبداعيةِ السورية، ومنها المسرح، وقد قام الكاتب والشاعر والممثل والمخرج المسرحي إسماعيل خلف الذي فازت نصوصه المسرحية بجائزة الدولة التشجيعية في مجال الآداب عام 2019، بتوثيقِ جانبٍ من ذلك التاريخ المشرف في كتابِهِ «المسرح في محافظة الحسكة.. ومسيرة تسعين عاماً» وقد أثبت الباحث إسماعيل خلف أن الحسكة شهدت منذ بداية ثلاثينيات القرن الماضي، حركةً مسرحيةً نشطة أثارت حفيظة المحتلين الفرنسيين، ما جعلهم يُلغون بعض العروضِ المسرحية «لإدراكِهِم أن ما يقدَّم يمثل نوعاً من المقاومة بواسطةِ الكلمة والعقل‏».

والشيء المؤكد هو أن شُعلة المسرح لم تنطفئ في الحسكة يوماً على الرغم من قسوة الظروف، ومحدودية الإمكانيات، وضخامة التحديات. وقد تمكن أبناء الحسكة المبدعون من فرض عروضهم على المهرجانات، وحازوا جوائز مهمة.

في ثمانينيات القرن الماضي كنت أغطي أحد مهرجانات المسرح، التي كان الفنان جميل المطرود يشارك في أحدِ عروضها. ما أذكُرُهُ من القصة هو أنني، لسببٍ لا أتذكره، لم أكتب عن ذلك العرض، رغم أنني أشدتُ شفوياً بالجهد الخلاق الذي قدمه جميل المطرود فيه. وعندما التقيت بالفنان جميل المطرود بعد مدة، اعتذرت منه واعترفت له بأنني قصَّرت معه، ووعدتُهُ بأن أنصفَه عندما تسنح لي أول فرصة، لكن جميل المطرود ابتعد عن المسرح كما ابتعدت أنا عن كتابة المتابعات النقدية، وقد أتيحت لي الفرصة خلال الأسبوع الماضي، كي أستدركَ ما فاتني، بعد قُرابةِ الأربعين عاماً، عبر فعالية «أيام الثقافة والتراث» التي نظمتها جمعيةُ صفصاف الخابور الثقافية، ومديريةُ الثقافة، وفرعُ اتحادِ الكتاب العرب في الحسكة، فلهم جميعاً غامر شكري وعميق امتناني.

أعلم جيداً أن الكلمة الطيبة تفقد الكثير من معناها ما لم تُقل في وقتها، لكن الوقت لا يزال مناسباً لإنصاف الفنان جميل المطرود من خلال توجيهِ التحية له ولمن يسيرون على دربِه، حاملين صليبَ المسرح على أكتافِهِم، حالمين بأن يقدموا فناً مسرحياً جاداً وراقياً رغم محدوديةِ الإمكانيات وقسوةِ الظروف.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن