صدر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة للكتاب كتاب بعنوان «الأسطورة وفلسفة الحكم في حياة ملوك الشرق القديم»، تأليف الدكتور عيد مرعي، يقع في 256 صفحة من القطع الكبير ويستعرض هذا الكتاب الأساطير التي عرفها الإنسان في ممالك الشرق القديم المختلفة التي ربطت ظهور الملكية بالآلهة والتي نجدها مدونة في الوثائق والنصوص المكتوبة، وأبرزها تلك التي عثر عليها في بلاد الرافدين ومصر القديمة وسورية القديمة. وانتقلت فكرة ارتباط الملكية بالآلهة إلى الفرس والرومان واستخدمها الإسكندر الكبير المقدوني على نطاق واسع وسيلة للسيطرة على شعوب الشرق وبقيت سائدة حتى العصور الوسطى حينما كان الملوك في أوروبا لا يعتبرون شرعيين إلا بعد مباركة بابا روما والباباوات الآخرين لهم. وعلى الرغم من اتساع معارف الإنسان وتعمقها مع مرور الزمن ومع تحقق تقدم فكري وعقدي فما تزال فكرة أن الإنسان مسيّر لا مخيّر، وإن الإله يدبر كل شيء، ماثلة في أذهان الكثير من الناس شرقاً وغرباً، وعلى اختلاف معتقداتهم وتؤثر في حياة الناس حكاماً ومحكومين تأثيراً واضحاً.
بلاد الرافدين
في البداية يتحدث الكاتب عن أشهر أساطير الحكم التي عرفتها الممالك القديمة في بلاد الرافدين كممالك أورورك وأور وكيش ولاجاش وأوما. حيث برزت خلال تلك العصور الطويلة من الزمن شخصيات مهمة كان لها دور بارز في صنع الأحداث وإدارة شؤون الحكم ولا سيما الملوك الذين ترك معظمهم كتابات ونقوش وأساطير تتحدث عن أعمالهم وكيفية وصولهم إلى الحكم بمساعدة الآلهة المعبودة التي تمثل غالباً قوى الطبيعة الكبرى. فيقول الدكتور عيد: «إن أقدم أسطورة معروفة هي أسطورة (إتانا) ملك كيش (بداية الألف الثالث قبل الميلاد) التي تبدأ بالحديث عن كيفية تصميم آلهة السماء والأرض مخطط مدينة كيش وكيف احتاجت إلى ملك ليحكمها وليقيم النظام والاستقرار فيها، لأن الملكية كانت ضرورية لحكم الأرض وتنظيم حياة الناس ونشر العدالة. بحثت عشتار (بالسومرية إنانا إلهة الحب والحرب والخصب) بعد تأسيس مدينة كيش عن رجل ليكون حاكماً للمدينة فعثرت على (إتانا) الراعي ونصبته ملكاً عليها».
وقد جاء في اللوح الأول من النص البابلي القديم ما يأتي:» الآلهة العظماء الإيجيجي (آلهة السماء) صمموا مدينة الإيجيجي ووضعوا أساساتها. الأنوناكي (آلهة العالم السفلي) صمموا مدينة كيش، الإيجيجي شيدوا لها أبنية ثابتة ودعوا أن يكون إتانا بنّاءهم.. لم يكونوا قد عينوا ملكاً على جميع الناس المتوالدة…. والسّبيتي (الآلهة السبعة) أحكموا إقفال البوابة في وجه الجيوش وأحكموا أقفالهم ضد شعوب أخرى مقيمة، والإيجيجي سوف يحرسون المدينة…».
الممالك الآشورية
ويستعرض الكتاب الحكم في الممالك الآشورية التي برزت فيها سلطة متعاقبة للملك كنائب للإله آشور على الأرض. ويرد ذكر ذلك في العبارة التالية التي كان يتم تكرارها في حفلات تتويج الملوك: «الإله آشور ملك، (فلان) هو حاكم آشور»، فالإله آشور هو المالك الحقيقي للبلاد وهو الذي يمنح الشرعية للملك لكونه يحكم باسمه على الأرض. ولم يكن ملوك العصر الآشوري القديم قبل ششمي أدد الأول يحملون لقب ملك لأن ذلك كان من صفات الإله آشور. لكن تغير الوضع في العصور التالية مع الإشارة إلى أن الملك مخلوق من أحد الآلهة، وهو في نظر السكان صورة تشبه صورة الآلهة، والآلهة هي التي خلقته على صورتها. وهذا ما يعبر عنه أحد النصوص بقوله واصفاً الملك: «الملك سيدي، هو المختار من قبل الآلهة الكبرى. ظلُّ الملك سيدي، يجلب الخير لكل شيء، ولكل إنسان…. ثمة مثل شائع يقول: الإنسان ظل الإله. ولكن أمن الممكن أن يكون الإنسان ظلاً لإنسان آخر؟ إن الملك هو على صورة الإله تماماً».
ويذكر الكاتب أنه يعزو شلمنصر الأول أحد أشهر ملوك المملكة الآشورية الوسطى تسلمه السلطة في آشور إلى الإله آشور، إذ يقول في إحدى كتاباته ما يلي: «شلمنصر المفضل من الإلهة عشتار الذي يقدم الهدايا الكثيرة لجميع الآلهة، مؤسس المعابد وباني الأضرحة، هو بطل لديه القدرة في المعارك ومحطم الأعداء…» كما عزا انتصاره على مملكة أورارتو إلى مساعدة الإله آشور والآلهة الرافدية الكبرى.
مصر القديمة
ويشير الدكتور عيد إلى أنه في مصر القديمة عد الملك (الفرعون) الضامن الوحيد للنظام والوحدة والاستقرار في البلاد وهو سليل الآلهة وممثل الإله الصقر حوروس ومصدر الحكم والتشريع وقائد الجيش والكاهن الأول والمسؤول عن كل شيء. وكان الاعتقاد السائد أن الدم الملكي يختلف اختلافاً جذرياً عن دماء الناس العاديين وأن الحق الملكي في الحكم قائم على طبيعته الإلهية المميزة عن البشر والتي كانت تنتقل مع الدم الملكي من ملك إلى آخر.
وكان الاعتقاد السائد أن روح الإله الصقر «حوروس» تدخل في جسم الملك حين تتويجه لتكون مرشداً له في كل ما يقوم به من أعمال ونشاطات. كما أنه يتلقى الـ«كا» الملكية وهي الروح التي تجعله مقدساً. وعند وفاته فإن روحه تندمج مع روح الإله «أوزيريس» إله الخصوبة ومملكة الموتى لتقوده إلى النعيم والخلود. وكان من رموز الملك الصولجان المعقوف الذي يربطه بالآلهة ويمسك بيده ميزان «ماعت» إلهة العدالة الذي يستخدمه لإشاعة النظام والعدالة بين سكان مملكته.