اقتصاد

هل أتاكم حديث الأولويات؟

| فراس القاضي

شاركت منذ سنين طويلة بتدريب لإحدى المنظمات الإنسانية عن كيفية التصرف الصحيح عند وقوع كارثة ما؛ انفجار، حريق، زلزال، ولا تزال المعلومات التي اكتسبتها منه في وجداني، لأنه من الممكن إسقاط مفهومها وعبرتها على الكثير من الأمور الحياتية وليس في حال الكوارث فقط، وأهمها أنه عند الوصول إلى موقع الحدث، يتقدّم فرق الطوارئ فريقٌ من المتطوعين، يحمل كل واحد منهم بيده ثلاثة شرائط: سوداء وحمراء وخضراء، يتوجهون للأشخاص المصابين، فإن كان الشخص متوفى، يربطون على يده شريطة سوداء، وإن كانت جروحه أو إصابته طفيفة يربطون شريطة خضراء، وإن كانت إصابته خطيرة ووضعه حرج يربطون شريطة حمراء، والهدف من ربط هذه الشرائط هو عدم تضييع ولو ثانية واحدة من وقت فريق الإسعاف الذي يدخل بعدهم أو معهم على شخص متوفى لا فائدة من إسعافه، أو مع شخص لا خطر عليه، وصب كل الجهد على الشخص الذي من الممكن أن تكون الدقيقة أو الثانية الواحدة فيصلاً في إنقاذه وبقائه على قيد الحياة.

كل الكلام السابق لخصته كل اللغات ومنها لغتنا الجميلة الغنيّة بكلمة واحدة هي: الأولويات.

فلنسقط المفهوم السابق على ما يحدث في موضوع إعادة هيكلة الدعم، لأنه حدث بعد كارثة اقتصادية، وهي أن الدولة السورية ما عادت قادرة على تقديم الدعم لكل مواطنيها لأسباب عديدة لسنا في معرض الحديث عنها الآن.

الأولويات هنا لا تختلف أبداً عن أولويات فرق الطوارئ من حيث مفهوم المساعدة على البقاء، ويفترض أن توضع الشريطة السوداء (أطال اللـه عمر الجميع) للأثرياء، والخضراء لمتوسطي الثراء، والحمراء للمحتاجين، وهم – ويا للمصادفة – السواد الأعظم من الشعب السوري الذي طحنته إحدى أقسى حروب التاريخ الحديث على مدار أحد عشر عاماً.

لكن وبالنظر إلى تصرفات الفريق المعني بإعادة الهيكلة، يبدو واضحاً وجلياً جداً أن ما حدث هو العكس تماماً، العكس بحرفية المعنى، حيث تم البدء بالحلقة الأضعف، أو الحلقة التي يسهل البدء بها والسيطرة عليها دائماً، لأن أمور حياتها ومماتها بيد الحكومة، ولا تملك ولا تستطيع الاعتراض أبداً، وهي شريحة الموظفين، فرُفع الدعم فوراً عن موظف يملك سيارة اشتراها حين اشترى الجميع سيارات بالتقسيط، ثم أعيد النظر بالموضوع وأعيد له الدعم، ثم استثني البعض، ورُفع عنهم الدعم مرة أخرى.

ثم انتقل الفريق إلى فئة (معترة) أخرى، كانت في يوم من الأيام تدعى بالطبقة الوسطى، فلوحقوا من أجل سيارة هنا، وسجل تجاري بسيط غير مستخدم هناك، وأنجزت مهمة رفع الدعم عنهم، ثم وبعد أشهر، – والحمد لله – خطر ببال الفريق المعني بإعادة هيكلة الدعم – والمكون من عدة وزارات كما قال مؤخراً وزير التجارة ليرفع – ولو قليلاً – عبء مواجهة الناس عن وزارته وحدها – أن يبدؤوا برفع الدعم ليس عمّن لا يستحقونه، بل عمّن ليسوا بحاجة إليه، ككبار المكلفين، وأصحاب المنشآت السياحية والتجارية الكبيرة، ومالكي الجامعات والمدارس الخاصة، ولا يزال حتى اللحظة الكثير من الميسورين وأصحاب مهن تدر الكثير من الأموال يحظون بدعم الدولة.

كل ما سبق يدل على ماذا؟

بالطبع على أن المشروع لم يُدرس كما يجب، وأنه حين تم البدء به، كانت الخطة هي أن نبدأ بتطبيقه على من هم (بالجيبة) ومن ثم لنرى ماذا نحن فاعلون، ولم يخطر ببال المعنيين بالموضوع أنه يجب البدء بإعادة الهيكلة من عند الذين لا يحتاجونه، وترك الفئة الأشد حاجة إلى النهاية، حينها يكون الموضوع قد أخذ مداه، والدراسة صارت أنضج، وبالتالي ما كان الفريق المعني وقع بالأخطاء التي أقام من أجلها منصة اعتراض يحدثها ويطورها كل فترة.

كلمة أخيرة أرجو أن يتسع صدر المعنيين لها:

الذين لا يزالون بحاجة الدعم هم الذين بنوا هذا البلد، وهم الذين غسلوا جروحه بدموعهم، وافتدوه بدمائهم ودماء أولادهم، وهم الذين – ولِعِظم حبهم له مهما حدث – يبكون بلا دموع، ويكتمون صراخهم حين تنهال سياطه عليهم، ولا ذنب لهم سوى أنهم فقراء.. والفقراء ليسوا أعداءكم، فلماذا تفعلون بنا ما تفعلون؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن