قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بشأن محادثاتٍ محتملة مع سورية إنّ «الدول لا يمكنها مطلقاً استبعاد الحوار السياسي والدبلوماسية».
قناة «تي آر تي» التركية نقلت عن أردوغان قوله إن «الولايات المتحدة الأميركية وقوات التحالف هم المغذون للإرهاب في سورية في المقام الأول، لقد قاموا بذلك من دون هوادة وما زالوا يواصلون ذلك»، مشيراً إلى أنه «يجب علينا الإقدام على خطوات متقدمة مع سورية، يمكننا من خلالها إفساد العديد من المخططات في هذه المنطقة من العالم الإسلامي».
تصريحات أردوغان هذه تأتي بعد تصريحاتٍ لوزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو بتاريخ 12/8/2022 كشف فيها أنه «أجرى محادثةً قصيرة مع وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز الذي عقد في تشرين الأول الماضي بالعاصمة الصربية بلغراد»، وقال تشاووش أوغلو حرفياً حسب ما نقلت عنه وكالة أنباء الأناضول التركية الرسمية: «في هذا اللقاء أكدت أن السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة هو الحل السياسي والقضاء على الإرهابيين من دون أي تمييز بينهم، وتحقيق اتفاق بين النظام والمعارضة، وتركيا تدعم هذه الخطوات، علينا تحقيق اتفاقٍ بين المعارضة والنظام في سورية بطريقةٍ ما، وإلا فلن يكون هناك سلامٌ دائم، يجب أن تكون هناك إدارةٌ قوية لمنع انقسام سورية، والإدارة التي يمكنها السيطرة على كل أراضي البلاد لا تقوم إلا من خلال وحدة الصف».
هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها أهم مسؤولَين عن صياغة سياسة تركيا الخارجية عن سورية بهذا الشكل، سواء من حيث التمهيد لإمكانية عقد لقاءاتٍ سياسية ودبلوماسية عالية المستوى، أو لجهة الكشف عن محادثة، ولو قصيرة، جرت بالفعل بين مسؤولَين من الصف الأول في كلتا الدولتين.
بالمطلق لا يمكن الوثوق بالمناورات التركية الإخوانية، فأردوغان يجيد اللعب على حبال التناقضات، وهو يختار أعداءه بعناية كما يختار أصدقاءه بعناية وفقاً لتكتيكات وأسباب خاصة به، وهنا عند هذه النقطة بالتحديد يمكن أن تحمل تصريحاته وتصريحات وزير خارجيته احتمالاً غير المناورة المؤقتة. بمعنى أن الوضع العام في المنطقة والعالم خلال السنوات العشر الماضية من عمر الحرب على سورية تغيّر، صحيحٌ أن التركي محتل في سورية، وصحيحٌ أن التحالفات التركية مع جبهة أعداء سورية لا تزال على حالها، وصحيحٌ أن إرهابييه شأنهم شأن أي عميل مرتهن آخر على الأرض السورية، إلا أن التغيير في الخطاب هذه المرة ليس تغييراً مزاجياً منعزلاً عن محاولة أردوغان ترميم علاقاته في المنطقة، وليس تغييراً ناتجاً عن قرارٍ بمناورة لكسب طرفٍ إلى جانبه على حساب الطرف الآخر، بل هو تغييرٌ يستند إلى عوامل لا يمكن إنكارها، إن كان التركي على قناعةٍ تامةٍ بها، وهي على الشكل التالي:
1- سقوط كل الرهانات على إسقاط الدولة السورية، هذه الرهانات التي كان أردوغان حجر الأساس فيها، وكان هو على قناعةٍ تامةٍ بها، وعمل كل ما يستطيع لتحقيقها.
2- انهيار النموذج الإخواني لحكم المنطقة كنتيجةٍ من نتائج الكارثة التي سماها الغرب «الربيع العربي»، وكان آخرها ما جرى في تونس التي كانت البداية والنهاية منها. ومن المعروف هنا أن انعكاس نموذج الحكم الإخواني فيما لو استمر على أرض الواقع كان سيكون له الأثر الأكبر في رسم معادلات المنطقة وتوازنات القوى فيها، وهو ما لم يعد ممكناً وبدلاً منه نشأ واقعٌ بديل لا يمكن لأردوغان سوى الاعتراف به، واليوم نرى أنه يقترب من مصر بكل قوّته، حيث ذكرها في التصريح ذاته الذي ذكر به سورية وقال حرفياً: «تجمعنا بالشعب المصري أخوّة، لا يمكن أن يكون مع الشعب المصري خلاف، لهذا السبب نحتاج إلى إقامة هذا السلام هناك في أسرع وقت ممكن».
3- التقارب مع روسيا في مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية ونزوع موسكو على وجه التحديد إلى احتواء وإغراء تركيا اقتصادياً في هذه المرحلة مع تحرك أردوغان لتوظيف موقع بلاده في الحرب الأوكرانية عبر اتفاق الحبوب، وتحركه اليوم من أجل تكريس بلاده كمعبرٍ إلزاميّ للغاز إلى أوروبا، وهي أمورٌ لا يمكن أن تمر بمعزلٍ عن الإرادة الروسية وهذا يتطلب تهدئةً ومحاولةً من التركي لمهادنة الروسي وسورية تشكل إحدى ساحات حسن النية المفترضة.
4- الإصرار الأميركي الأوروبي على الاحتفاظ بورقة الميليشيات الكردية في سورية وتبلور قناعة لدى طهران وموسكو وأنقرة بأن الكيان الانفصالي في شمال شرق سورية ليس أمراً عابراً في السياسة الخارجية الأميركية الحالية، وهذا ما عكسته البيانات المشتركة، رغم عموميتها، الصادرة عن كل لقاء يجمع زعماء هذه الدول في ما يخص وحدة أراضي سورية.
5- اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التركية وما تحمله من ضغوطٍ على أردوغان على مستويين مرتبطين بسورية بشكلٍ أو آخر: الأول، الوضع الاقتصادي التركي المتدهور أساساً ومحاولة خصوم أردوغان استغلال هذه الورقة ضده. الثاني، ورقة اللاجئين السوريين التي يبدو أنها قادرة بنظر كل الأفرقاء السياسيين الأتراك على حمل وزر التدهور الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي في تركيا، والتي ينزع الرئيس التركي إلى حلّها بكل الوسائل المتاحة.
6- يقين أردوغان، رغم نجاحه في مناوراته المضادة الموجهة إلى روسيا وإيران في ما يخص تنفيذ الاتفاقات الملزمة لتركيا في سورية، باستحالة التوسع العسكري في سورية على حساب الموقفين الروسي والإيراني، ويقينه أيضاً بحتمية الصدام مع حلفاء سورية سواء بشكلٍ مباشر أم غير مباشر إن حاول الجنوح إلى الحلول العسكرية الميدانية.
7- النزوح كتكلفةٍ لأي خطوةٍ عسكريةٍ تركيةٍ غير محسوبة في سورية هو الآخر يحضر في حسابات الرئيس التركي، خاصةً في ظل تراجع أولوية تمويل ورقة النازحين السوريين على المستوى الأممي الأطلسي في الوقت الحالي لمصلحة ورقة اللاجئين الأوكرانيين في أوروبا، وهذا ليس أمراً مؤقتاً، بل هو مستمر في المدى المنظور.
لا يمكن استبعاد الخداع من قائمة سياسات أردوغان، بل هو الاحتمال الأرجح، وقد يحاول رغم خطابه المتحوّل أن يركز على ملف «المصالحة» وفقاً لشروطه، كي يأخذ في السياسة ما لم يحصل عليه في الميدان، لكن على الرغم من ذلك فإن العوامل التي مرّ ذكرها ستساهم عاجلاً أو آجلاً في الدفع نحو تغييرٍ واقعيّ في مقاربة الملف السوري، إن كان للواقعية مكان.