رئيس حكومة تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي وجه دعوة في الـ16 من آب 2022 إلى قادة القوى السياسية العراقية لعقد اجتماع في قصر الحكومة «للبدء في حوار وطني جاد، والتفكير المشترك من أجل إيجاد الحلول للأزمة السياسية الحالية.. ما يسهم في تهدئة التصعيد الحالي، وإيجاد بيئة مناسبة للحلول السياسية والدستورية، بعد إخفاق الكتل السياسية العراقية في التوصل إلى حل للأزمة السياسية الراهنة».
المتخاصمون العالقون في طريق مسدود، حيث المكابرة والعناد المستمر جمدا العملية السياسية ومساعي التفاهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، كانوا يتطلعون إلى دعوة كهذه لإزالة عتمة المشهد، وهم يدركون، أنه في الانفلات الأمني سيكون الجميع خاسراً، وبأن العملية السياسية برمتها ستنهار فوق رؤوسهم، والله وحده يعلم كيف ستكون الأمور حينها.
المتآمرون التقليديون على أمن العراق واستقلاله ووحدة أراضيه، ممن ضخوا الانتحاريين بالمئات لقتل الشعب العراقي في الشوارع والأسواق وأماكن العبادة لزعزعة مسار العملية السياسية فيه، والذين اعتبروا احتلال تنظيم داعش لمدينة الموصل وباقي المناطق العراقية في حزيران 2014 «ثورة شعبية»، يدركون قبل غيرهم أن المجتمع الدولي، وخصوصاً الأوروبي والأميركي، لن يتجاهل أو يغض الطرف عما يدفعون باتجاهه، لا حباً بالعراقيين، إنما لقناعتهم بأن خطر حدوث ذلك سينعكس بلا شك على إمكانية استمرار تزويدهم بالنفط العراقي، في ظل تصاعد أزمة الوقود الحاصلة لديهم نتيجة العقوبات التي فرضت على روسيا.
سرعة استجابة رؤساء الكتل السياسية لحضور اجتماع مهم وحساس في أقل من 24 ساعة، بمشاركة رئيس الجمهورية برهم صالح، ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، ورئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، ومبعوثة الأمم المتحدة إلى العراق جينين بلاسخارات، أعطت انطباعاً بأن الأبواب المغلقة فُتحت لاحتواء الاحتقان، بإيجاد حل توافقي ينزع فتيل التفجير.
بيان مكتب مقتدى الصدر، الذي اعتبر أن «التيار الصدري وبجميع عناوينه وشخصياته السياسية لم يشترك في الحوار السياسي الذي دعا إليه السيد رئيس مجلس الوزراء هذا اليوم بطريق مباشر أو غير مباشر»، أعاد إشاعة أجواء التشاؤم لدى العراقيين من جديد، فغياب أحد أطراف الأزمة عن الاجتماع يعني أن مساعي المجتمعين لم تنجح في إيجاد مخرج للأزمة.
أجواء التشاؤم هذه عززها بيان «وزير الصدر» صالح محمد العراقي في الـ18 من آب الجاري، الذي اعتبر أن الجلسة التي تبنّاها رئيس الوزراء «لم تسفر إلا عن بعض النقاط التي لا تسمن ولا تغني من جوع»، لأنها «لم تتضمن أي بنود تخص الشعب أو تستجيب لتطلعاته»، مؤكداً «جلستكم السرية هذه لا تهمنا بشيء».
في الحقيقة، اجتماع قادة القوى السياسية العراقية في القصر الحكومي، لم يقدم مخرجاً أو مبادرة أو حلاً للأزمة، فالنقاط الخمس لمخرجات الاجتماع كان من أبرزها: الاحتكام مرة جديدة إلى صناديق الاقتراع من خلال انتخابات مبكرة ليس حدثاً استثنائياً» وفقَ مساراتٍ دستوريةٍ وقانونية، ودعوة التيار الصدري إلى «الانخراط في الحوار الوطني، لوضع آلياتٍ للحل الشامل ما يخدم تطلعات الشعب العراقي وتحقيق أهدافه، وإيقاف كل أشكال التصعيد الميداني، أو الإعلامي، أو السياسي، سبق أن تم تداولها ولا جديد فيها. فالإطار التنسيقي وأغلبية القوى السياسية الأخرى لم تُعارض حل المجلس النيابي، لكنها اشترطَت أن يتم ذلك عبر مسارٍ دستوريٍ وقانوني، كما أن دعوة التيار الصدري إلى الحوار والتفاهم، ليست الأولى من نوعِها، وسبق أن رفضها.
مقتدى الصدر وفي آخر تغريدة له في الـ20 من آب الجاري، قال: «قدمنا مقترحاً للأمم المتحدة لجلسة حوار بل مناظرة علنية وببث مباشر مع الفرقاء السياسيين كافة.. فلم نرَ تجاوباً ملموساً منهم.. لذا نرجو من الجميع انتظار خطوتنا الأخرى إزاء سياسة التغافل»! جازماً «لن أجالس الفاسدين أو الذي يريد السوء أو قتلي أو النيل ممن ينتمي إلينا».
مقتدى الصدر و«وزيره» جربا خلال الأشهر الماضية، كل شيء من اعتكافات، انسحابات، إنذارات، تنمر، شتم وتحدي الخصوم، حشد الشوارع والاعتصامات، تجاهل نداءات التهدئة من الشركاء في العملية السياسية.. كل ذلك لم ينجح، ولم يحقق أي شيء سوى الدفع بالعراق نحو الهاوية، وترويع الآمنين.
سياسات استعراض القوة، ومعارك عض الأصابع والشخصنة والثأر والتملص من مسؤولية ما جرى وما يجري، لن تجدي نفعاً أو تحقق نصراً. فلا سبيل للخروج من حالة الفوضى والانسداد السياسي سوى الحوار، وهو ما يستدعي تفكيراً عقلانياً يراعي حاجات العراقيين بعيداً عن لغة التشنج والتصريحات النمطية، والاحتكام إلى القانون والدستور بـ«عجره وبجره»، فما يجمع المتخاصمين أكثر بكثير مما يفرقهم. والعراق لا يمكن اختزاله بتيار صدري وإطار تنسيقي، وهو أمانة في أعناقكم كما تدعون.