قضايا وآراء

زمن أفول «العمق الإستراتيجي»!

| د. أسامة دنورة

منذ أن نظّر أحمد داوود أوغلو للفهم الجديد لموقع تركيا الجيوبوليتيكي في المنطقة ضمن كتابه الشهير «العمق الإستراتيجي»، شهدت السياسة الخارجية التركية تحولات واسعة تجاه إعادة الانخراط في الشرق الأوسط، وتفعيل دور تركيا في إطار الفضاء «العثماني» والفضاء «الطوراني» على حد سواء.

لقد مثلت هذه السياسة محاولة فريدة لاستغلال الروابط التاريخية والقومية التركية لتعزيز قوة تركيا ونفوذها الجيوسياسي بعد مرور سنين طويلة من الانتظار غير المجدي على عتبة الاتحاد الأوروبي، هذا الانتظار الذي كان من شأنه أن يفرز بلا ريب نزوعاً نحو مقاربات سياسية إيديولوجية جديدة تراعي اعتبارات الكرامة القومية التركية، وتبحث عن البدائل في فهم تركيا لهويتها الجيوبوليتيكية.

تصرفت النخب السياسية التركية بنوع من «التفكير الرغبي»، ورأى بعضها في ظروف ما بعد الحرب الباردة والانكفاء الروسي من جهة، وظروف التخبط الأميركي بعد غزو العراق من جهة أخرى، وظروف الانهيار العربي من جهة ثالثة، رأت هذه النخب في هذه الظروف جميعها فراغاً في رقعة الشطرنج الإقليمية يمكن أن تملأه تركيا.

ولكن بقدر ما كان ذلك صحيحاً نسبياً، فإنه، وبالقدر ذاته كان مرحلياً ومؤقتاً، فالقوى الكبرى استعادت سريعاً التزامها بحدود فضائها الحيوي، المباشر منه والبعيد على حد سواء، وبدأ بصورة مبكرة نسبياً، ومنذ إسقاط حكم الإخوان في مصر، وضع الحدود والضوابط للمشروع التركي من دون إنهائه غربياً، سعياً لتحجيمه مع الإبقاء على السعي لاستثماره ضد أعداء الغرب في دوائر إستراتيجية ثلاث، شرق المتوسط والبحر الأسود والقوقاز.

حضرت روسيا بدورها في سورية، متأخرة قليلاً ربما، لتحفظ مصالحها في الاستقرار الجيوبوليتيكي، ولتدعم حليفها الوحيد المتبقي في الشرق الأوسط، فوضعت سداً جديداً أمام تطبيق مشروع «العمق الإستراتيجي» بصيغته التدخلية التي مثلت خروجاً عما نظر له داوود أوغلو من الأساس.

لم تقرأ تلك النخب التركية، التي سعت لتغيير الخرائط السياسية للمنطقة، أن العبث بجيوبوليتيك ما بعد الحرب العالمية الأولى ممنوع تماماً كقرار يحظى بتوافق قوى عظمى متناقضة عادةً، وأن استعادة تركيا للنفوذ في المجال التاريخي «للجامعة العثمانية» أو بناء نفوذ واسع مستجد في إطار «الجامعة الطورانية» أمر مستحيل، فقد ظهر بوضوح أن مساحة «الفراغ» الذي سعت أنقرة لملئه في المنطقة محدودة جداً جغرافياً وسياسياً وزمنياً على حد سواء.

مثلت التحولات التركية الأخيرة تجاه العلاقات مع دول الشرق الأوسط ما يمكن أن نطلق عليه تأقلماً متأخراً نسبياً مع أمر واقع جديد، فبدت السياسة التركية تنشط باتجاه إعادة تطبيع علاقتها مع السعودية والإمارات ومصر، وبدأت رياح التغيير تصل إلى السياسة التركية تجاه سورية.

من الممكن القول اليوم: إن تصريحات تصدر عن وزير الخارجية التركي، وعن زعيم حزب الحركة القومية الحليف الأقرب لأردوغان، وعن أردوغان نفسه، وعن الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية، تمثل مؤشراً جدياً على وجود نية بإحداث انزياح حقيقي في السياسة التركية تجاه سورية، ولكنه يبقى مؤشراً حتى يوضع موضع التطبيق.

ليس من السهل ولا التلقائي تفكيك سياسات تم ترسيخها في تركيا عبر عقد كامل من الزمان، وتم الاتكاء عليها شعبوياً وانتخابياً، قبل أن يعيد الشعب التركي جدولة أولوياته السياسية، وهناك عدد من التحديات الجدية التي تواجه التحول التركي:

١- سحب المقاربة الإيديولوجية السابقة القائمة على دعم تيار تسييس الدين ممثلاً بتنظيم الإخوان من جهة، وتلك القائمة على إعادة تغيير خرائط المنطقة لاستعادة حدود خريطة «الميثاق الملي» أو ما يقاربها.

٢- تفكيك البنى الميليشاوية وتحت الدولانية الإرهابية الموجودة في إدلب والشمال السوري، والتي باتت تمثل عبئاً وأحمالاً زائدة تعيق المصلحة القومية التركية، ومصلحة الحكم التركي على حد سواء.

٣- إيجاد خريطة طريق مدروسة تتيح استعادة ضبط الحدود على جانبيها السوري والتركي، بما يضمن العودة إلى مضمون «تفاهم أضنة»، أو إيجاد صيغة معدّلة وفق الظروف الحالية، ولعل هذا العائق يعتبر الأكثر تعقيداً في ظل الاحتلال الأميركي الداعم لقوى الأمر الواقع في الشمال الشرقي، والذي يعمل على تخريب الحلول وخلط الأوراق بصورة مستمرة.

٤- إيجاد خريطة طريق لتحقيق عودة تدريجية وطوعية للاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم بعيداً عن المقاربة التي يمكن أن تتسبب بمزيد من التورط التركي في سورية تحت شعار «المنطقة الآمنة».

٥- تجاوز إرث طويل نسبياً من انعدام الثقة ما بين الحكومتين السورية والتركية، والذي نجم عن التورط التركي في دعم المجموعات المسلحة الإرهابية، فضلاً عن التدخل السياسي في الوضع السوري، وفي هذا السياق فمن الطبيعي تماماً أن تحجم الدولة السورية عن ملاقاة الإيجابية النسبية في التصريحات التركية، وأن تحجم أيضاً عن استعادة أي مشهد طبيعي بروتوكولياً ودبلوماسياً، قبل أن تلمس جدية وواقعية التصريحات التركية على الأرض.

ومن هنا فإن إزالة تراث العداء بين الجانبين، والذي أذكته بعض الإستراتيجيات قصيرة النظر آنفة الذكر، يقتضي أن تقترن الأقوال بالأفعال، فتصريحات النيات الطيبة لوحدها لا تُصرف في ظل سياسات التدخل والاحتلال ودعم المجموعات المسلحة، وقبل أن توضع هذه التصريحات موضع التنفيذ فسيكون متعذراً تمييز جدية هذه التصريحات من مساعٍ آنية ذات خلفية انتخابية تهدف إلى مصادرة مواقف المعارضة التركية، وسحب البساط من تحتها.

إن العمق الإستراتيجي لتركيا قد تحول إلى مأزق وعبء إستراتيجي في ظل انحراف تطبيق النظرية عن سياسات الشراكة السلمية وتعزيز القوة الناعمة التي أتى بها داوود أوغلو، والذي أصبح اليوم في موقع المعارضة، فالآثار الجانبية، وفق المصطلح الطبي، لسياسات تركيا في العقد الماضي، بلغت عتبة السميّة على الجسد التركي، أما في حال استعادة مشهد السلام المبني على معايير «الأمن الجماعي غير القابل للتجزئة» فستصبح كل دول المنطقة بمثابة العمق الإستراتيجي للدول الأخرى، وتتحقق بذلك معايير الأمن والنمو الاقتصادي للجميع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن