تأخرت «الإدارة الذاتية» شهراً، أو ينقص قليلاً، في تلمس الرياح التي حددت قمة طهران 19 تموز الماضي وجهتها، ففي 14 آب سيقول «رئيس مجلس سورية الديمقراطية» رياض درار إن القصف التركي لمناطق سيطرة «قسد» يهدف إلى زعزعة الاستقرار في تلك المناطق، كما يهدف إلى تحريض النسيج المجتمعي المنضوي تحت سيطرتها على التظاهر ضدها في محاولة لتفكيك بنيانها، حدث هذا على الرغم من أن العديد من المؤشرات كانت قد تكاملت ملامحها سريعاً وهي لم تتأخر في كشف مسارها الذي تختطه، وجميعها تصب في جعبة الرؤية سابقة الذكر، فالقصف التركي المستمر هو من النوع الذي يهدف فعلاً إلى تفكيك بنيان «الإدارة الذاتية»، أما الشق المتعلق بقصف مواقع للجيش السوري فهو يهدف للقول إن دخول الأخير إلى العديد من المناطق الحدودية لم يكن من النوع الملغي لوجود «قسد» العسكري والإداري، والرسالة موجهة في آن لشريكي «أستانا»، روسيا وإيران، ومفادها إما أن تعمل الأخيرتان إلى إلغاء ذلك الوجود، وإما تمنحان الضوء الأخضر لتوسعة ما تقوم به أنقرة بما يضمن تحقيق الفعل.
في حصيلة الأسابيع الثلاثة الماضية التي سجلت ضغطاً عسكرياً تركياً من نوع محدد، يسجل الواقع الميداني حالات فرار فردية وجماعية في صفوف «قسد»، وتشير تقارير، بعضها غربية، إلى أن تلك الحالات إذا ما استمرت فلسوف تؤدي خلال وقت ليس بطويل إلى اختلال البنية التنظيمية والعسكرية لهذي الأخيرة، على حين تشير بعضها إلى أن المفاعيل المرتقبة لتلك «النجاحات» التركية قد تذهب إلى إبطال مفعول القرار الذي اتخذته وزارة الخزانة الأميركية الذي يقضي باستثناء «مناطق قسد» من العقوبات المفروضة على سورية بذريعة «عدم وجود بيئة مناسبة للاستثمار»، لكن الأخطر فيها، أي في تلك التقارير الغربية، هو ذلك الذي أشار إلى أن القوات الأميركية تشكل المصدر الرئيس لتسريب المعلومات عن مواقع «قسد» وتحركات قيادييها، الأمر الذي يفسر دقة العمليات التركية ونجاحها في اصطياد العديد من هؤلاء، لكن أياً تكن المصداقية التي تحظى بها تلك التقارير، والتي تؤكد الوقائع الميدانية بأنها تحظى بشي منها، إلا أن المؤكد هو أن «قسد» باتت موقنة اليوم بأن حليفها الأميركي غير قادر على حمايتها، أو بمعنى أدق لا يرغب في ذلك، لأن الرغبة لها أثمان باهظة في ظل الاحتياج الأميركي المتنامي للدور التركي الذي تريد له واشنطن أن يبقى في حدوده الراهنة على تخوم الصراع الدائر راهناً في أوكرانيا وعليها.
من المؤكد، في خضم التعقيدات التي حصلت مؤخراً فأرخت بظلالها على المشهد المعقد أصلاً في الشرق السوري، أن خيارات «قسد» قد ضاقت بدرجة يبدو معها أن خيار «العودة إلى حضن دمشق» الذي كثيراً ما استخدمته تلك الميليشيا لتخفيف الضغط التركي وابتزاز الأميركيين، قد ضاق هو الآخر، أو على الأقل فإن خياراً من هذا النوع لم يعد يشبه الخيار الذي كان عليه قبل 19 تموز الماضي، أما إذا ما أزيلت «الحواجز» القائمة على طريق دمشق أنقرة، وهو أمر مطروح رغم أن الفعل يعترضه عقبات كبرى، فإن المشهد السياسي السوري سيشهد انقلاباً جذرياً لربما لا يعادله سوى ذلك الذي تولد عن «عاصفة السوخوي» 30 أيلول 2015.
في مطلق الأحوال يمكن القول إن الإشارات التي ما انفكت تطلقها أنقرة باتجاه دمشق هي حقيقية وجدية، بمعنى أن سعي النظام التركي نحو المصالحة مع دمشق يجب أن يؤخذ على محمل الجد، وهذا يتأتى من عوامل عدة لعل في الذروة منها عاملين اثنين، أولاهما هو التدهور الحاصل في العلاقة التركية مع الغرب عموماً، ومع الولايات المتحدة على وجه الخصوص، وهذا سيدفع بأنقرة نحو تحصين مواقعها الإقليمية، وهي إذ بدأت ذلك قبل أشهر عبر طرق أبواب الرياض وأبو ظبي والقاهرة، لكن الختام يجب أن يكون مع الجوار السوري المفتاحي، وثانيهما انتقال العلاقة الروسية التركية من حيز «التعاون الإقليمي» إلى فضاءات «التعاون الدولي» التي كانت فاتحتها «اتفاقية الحبوب الأوكرانية»، وهذا يفرض بالضرورة سلوكاً سياسياً، أعم وأشمل، ويفرض فتح المجال واسعاً أمام تلاقيات أكبر بين موسكو وأنقرة، والفعل يقتضي بالضرورة تغيراً «ما» في السلوك التركي نحو دمشق التي توليها السياسات الروسية، السابقة واللاحقة ما بعد 24 شباط، أهمية قصوى لم تستطع المتغيرات التقليل منها، ناهيك عن رزمة من العوامل الداخلية التي من أبرزها الضغوط الاقتصادية وتحالفات المعارضة التي يشتد عودها يوما بعد يوم.
لا يمكن لمتبصر في السياسة، ممن هو في موقع القرار، إغفال هذه المتغيرات التي ما انفكت تذهب بعيداً في سياق تبلورها، والفعل لازم بالضرورة كـ«دريئة» يجري التصويب عليها في بناء السياسات ولو كان التوجه التركي «تكتيكياً» بمعنى أنه لزوم تمرير انتخابات 23 حزيران المقبل، أما «المتبصر القسدي» فالحمل عليه مضاعف، فهو معني إضافة إلى سابقه بتلمس «لحظة فاصلة» هي الأصعب مما مر بها منذ عام 2015 حتى اليوم، والشاهد هو أن «المتبصر» الأخير يجب أن يكون قد وصل، عبر توسعة العدسة، إلى رؤية مفادها أن «مشروعه» كان ساقطاً لا محالة بفعل حقائق التاريخ ومعطيات الجغرافيا، على حين أن مبررات وجوده لا تتعدى اتصاله بـ«حبل مشيمة» خارجي كان قد جاء أصلا كنتيجة لحالة الاحتياج التي فرضتها ضرورات وسياسات.
الآن، أما وقد تغيرت تلك الضرورات والسياسات، فقد بات لزاماً أن يدخل انتفاء الحاجة لتلك الأدوات في صميم الحسابات.