الانتماء والولاء للعلم أم للذات؟! … ألا يوجد لدينا أعلام؟ أم قزّمنا القامات حتى غابت؟
| إسماعيل مروة
قد لا يعني الشخص العالم ما يوضع أمام اسمه من ألقاب علمية أو توقيرية، فهي ألقاب لا قيمة لها وتزول بنفخة واحدة، وماذا يفيد الإنسان أن تضع أمام اسمه أسماء شهاداته وألقابه، وهي تطير بنفخة واحدة؟
جهل وصدارة!
فأحد الدكاترة الذين يجلسون على مناصب علمية ذات مكانة، ويشرف على رسائل ماجستير ودكتوراه، ويستشار في العلم، يضع على صفحة الغلاف لكتاب محقق مختصراً لشهاداته العلمية ومواقعه، وفي شرحه وتحقيقه لقصيدة كعب بن زهير، التي شرحها ابن هشام، ومن الصفحات الأولى نجد في الحاشية قوله: الحماسي شاعر لم أعثر على ترجمته! وتتكرر العبارة عشرات المرات في الكتاب اللطيف، وحين نقرأ الشعر فهو من الشعر المشهور لشعراء مشاهير وفي دواوينهم، وبالقراءة المتأنية نعرف أن ابن هشام كعادة القدماء ينسب الكتاب إلى المشهور، والشعر إلى المصدر، والحماسي عنده صفة لأي شاعر اختار له أبو تمام في حماسته، وليست صفة خاصة بشاعر دون سواه! وهذا الأستاذ الأكاديمي عندما يتحدث عنه المتحدثون، فإنما يتحدثون بإجلال وتوقير، ولو وقفت عند عبارته هذه، سيأتيك من يتصدى للدفاع عنه بأنه اجتهد فأخطأ، وهو نفسه يكتب المطولات فيمن لا يتفق معهم فكرياً!! فالذي انتقد بشيء من الحب خائن، والذي هدم كل شيء مجتهد!
تورّم وألقاب
وفي كتاب موجود في الأسواق لكتاب المستطرف بطبعة سقيمة في مجلد واحد، محققه يستهلك نصف صفحة للتعريف بنفسه وشهاداته وكرسيه في السوربون، وفي الصفحات الأولى من الكتاب يرد ذكر أبي جهل فيعرّف به في حاشية: هو عم النبي وفيه نزل قوله تعالى: تبت يدا أبي لهب وتب..!
وهذا نفسه بجلالة قدره لا يلتفت إلى العقاد أو طه حسين لأنهما ليسا من مستواه العلمي! وقد يكون الأمر مقبولاً لأنه ناتج عن عدم معرفة وأشياء أخرى.. لكن زيارات الكتب تصدمك أمام رؤية مناهج المدققين، والذين يشهد لهم بالعلم، وهم كذلك حقيقة، ولكن الميول والانتماء يدفعهم إلى ظلم أناس ورفع آخرين، مع أن الذين ظلموا ليسوا دون من رفعهم هذا الكاتب أو ذاك.
ففي كتاب محقق تحقيقاً علمياً مهماً ومميزاً، ولأكاديمي من أصحاب الباع الطويل يتحدث عن الدراسات السابقة له، فيذكر بطرس البستاني وجورجي زيدان عرضاً، وهما السابقان، ويذكر أول دراسة لطه حسين، هكذا عرضاً، مع أنه لم يستطع أن يتجاهل الإشادة بأسبقية الدراسة ومنهجيتها، لكنها مرّت هكذا، وهو أمر علمي، لكن بعد أسطر يذكر أستاذه فيقول ودراسة العلامة الدكتور شوقي ضيف! هو علامة، وهو دكتور، وهو رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة، وهو صاحب المؤلفات الكثيرة، وهو المشرف على مئات الأكاديميين في العالم العربي رحمه الله، ولكنه لا يعدو أن يكون طالباً لطه حسين بحكم السن والريادة، واسمه ليس بمكانة الدكتور طه، وأثره إيجاباً أو سلباً لم يصل إلى عميد الأدب.
الأثر الباقي
فكيف يتهيأ لباحث أصيل متمكن أن يفعل هذا، والدكتور شوقي نفسه لا يقبله؟ هو مشرفه في الرسالة الأكاديمية، لكن هل يمنعه هذا من وضع الألفاظ الحقيقية أو الألقاب اللازمة؟ هل بإمكاننا أن نسلب الإنسان حقه وجهده لمجرد أننا لا نتفق معه في الآراء؟
رحل الرجلان، ولهما الإجلال والتقدير، كتبهما باقية، لكن كتب العميد هي الأكثر بقاء أحببنا أم لم نحب، لأنه أثار فكراً وجدلاً، ولم يكن مجرد جامع وناقل ومسلّم بكل ما وصل إليه، كما فعل د. ضيف وغيره من الأساتذة الكبار الذين آثروا العمل الجاد في الجمع والشرح والتبويب دون أن يجازفوا في تحريك المياه الراكدة في البيئة الثقافية والفكرية!
من أساسيات العلم واللياقة أن يتم توحيد لغة الخطاب، فإن استخدمنا الألقاب لواحد، علينا أن نستخدمها للجميع، وهي حق مكتسب لهم علمياً، وإلا نستخدم ا لأسماء مجردة للجميع ايضاً.
أما الألقاب الرنانة التي يسبغها واحدهم على الآخر، فهي غالباً ما تلقى دون عناية ودراسة، ولا قيمة لها، فإن وصفت واحدهم بالعلامة، وهو لم يكن كذلك فلن يصبح علامة..
النكران بعد الرحيل وفي الحياة!
وأذكر من باب الألم أن عدداً لا يستهان به من أساتذتنا، وهم جديرون غادروا الدنيا، ولم يحصلوا على حقهم العلمي لأن حاقداً لا يحبهم، وقد يوصف واحدهم بأوصاف، وتلتصق به، وهو واحد من الأساتذة الفضلاء! فهل رأيتم الانتماء والولاء والحب؟!
واحد منهم على قيد الحياة، أطال الله بقاءه، متبحر في كل العلوم، لكن الكره والتنافس رفعا التلاميذ والمبتدئين والجهلة، وأبقى الأستاذ الجدير حاملاً حقيبته يسعى في طرقات دمشق كأنه طالب لم يغادر مقاعد الدرس..!
وماذا ينتظرنا؟
ما دمنا غير قادرين على معرفة الشيء وحقيقته، ونؤمن بأن المعاصرة حجاب، وبأن التنافس عداء، وأن المصالح تحكم، فإننا سنضحي بكل شخصيتنا وهويتنا الثقافية والفكرية والحضارية لندور في فلك من الإهمال والببغاوية!
قال أحدهم: لماذا لا يوجد لدينا أعلام كأعلام مصر؟ لم أستطع أن أجيب إلا أن أقول أعطني حباً وتنافساً وتقديراً كما بين شوقي وحافظ فستجد هؤلاء الأعلام..
الذي لاشك فيه هو أن الحضارة الجديدة أثرت في الناس والثقافة والعلم والجامعات، ولو أحسنّا التعامل، فإنه كان من المفترض أن يكون تأثيرها إيجابياً لتعزيز مكانة العلم والثقافة على كل صعيد، ويخطئ من يظن أن الحضارة سلبت الكتاب والثقافة دوريهما، ولكن الإخلاد إلى الراحة والكسل هو الذي جعلنا نهمل مسألة التعلم والتلقي، ولم يكن التعليم كما يزعم كثيرون تقليدياً، فقد أدركنا أساتذة أجلاء يحيلوننا إلى المصادر والمراجع ويحاوروننا، ولا يملون على طلبتهم، ولا يطلبون من الطلبة الحفظ الصم، كان التفاعل أساساً لتعليمهم، ومن الممكن مع الحضارة الحديثة أن تصبح هذه الطرائق أكثر جدوى.
أخيراً
لابد من العودة إلى إعطاء الثقافة والتعليم الدور الحقيقي، مع وجود اللغات والتدريب والتأهيل وما شابه ذلك، لكن ماذا يفيدني أن أّدرّب شخصاً لا يملك علماً ولا ثقافة؟ كل المؤسسات في العالم اليوم تعطي علمها عبر وسائل التقانة، ومجتمعنا يصرّ على أن يكون الطالب متلقياً مستنداً!!
جميع المؤسسات الراقية تنظر للعلم نظرة مهمة ومحترمة، وتقدّر الذي تجاوز حد التعليم في عمره، ونحن نريده متفرغاً متعطلاً عن العمل يفتح شدقيه للهواء وربما في مرحلة لاحقة نضع شروطاً للتعلم بأن يكون عزباً أو مطلقاً أو مقطوعاً من شجرة!.