قضايا وآراء

سلمان رشدي ما بين أيلول 1988 وآب 2022

| عبد المنعم علي عيسى

عندما أصدر الكاتب البريطاني من أصل هندي كشميري سلمان رشدي، روايته «آيات شيطانية» في أيلول من العام 1988 لم يكن روائياً معروفاً أو مشهوراً بالقدر الذي أضحى عليه ما بعد ذلك الفعل، فقد كانت روايتاه «العار» و«أطفال منتصف الليل» السابقتان لروايته الأشهر بمستوى جيد لكنهما لم تحظيا بـ«بقعة الضوء» اللازمة دوما لسرعة الانتشار بغض النظر عن القيمة الفنية للرواية وكذا بغض النظر عن الأفكار التي تطرحها، لكن فيما بعد سيصبح الرجل محط اهتمام وترقب بارزين وخصوصا بعد صدور الفتوى بـ«إهدار دمه» التي أطلقها مرشد الثورة الإيرانية الإمام الخميني بعد نحو عام على صدور تلك الرواية.

أعادت حادثة الطعن التي تعرض لها رشدي يوم الجمعة 12 آب الجاري الضوء من جديد لهذا الأخير بعد ما يزيد على عقدين من الزمن كان قد تخلى فيهما عن اسمه المستعار الذي عاش فيه ما بين 1988 و1998، حيث سيشهد هذا العام الأخير إعلان الحكومة الإيرانية عن أنها «لا تستهدف رشدي ولا تدعو لقتله»، وعليه فقد استمرت حياة الأخير بشكل طبيعي إلى أن قام اللبناني هادي مطر، مواليد كاليفورنيا، بطعنه إبان إلقائه محاضرة في معهد «تشوتوكوا» في نيويورك.

بداية لا بد من القول إن سلمان رشدي يصنف في خانة الكتاب الذين يجمعون ما بين الخيال التاريخي «الفانتازيا» وبين الواقع الساخر، ومن المؤكد أنه استخدم ذينك الأمرين في روايته «آيات شيطانية» بطريقة مستفزة، ومسيئة للإسلام ولنبيه محمد (ص)، بدءاً من استخدام اسم «ماهوند» الذي يعني باللغة اللاتينية «الشيطان المتجسد»، ثم وصولاً إلى استخدام «قصة الغرانيق»، التي شكلت العمود الفقري للرواية، والتي تجمع معظم كتب التاريخ على أنها بـ«إسناد ضعيف»، والفعل مدان، أيا تكن مسوغاته، وهو لا يندرج في سياق «حرية التعبير»، ولا يمكن القول إنه يأتي في سياق جموح الخيال الفكري الذي من حق العامة احترامه عند الكاتب أو المبدع، فهناك فرق بين أن يكون ذلك الجموح «إيجابياً» وهو يهدف إلى تخيل واقع افتراضي ذي مرامٍ واضحة من السرد، وبين أن يكون ذلك الجموح أقرب إلى استحضار «رواية» مشبوهة والبناء عليها وخصوصاً أن العمليتين تهدفان إلى الإساءة لرموز دينية تقر كل الشرائع والقوانين على وجوب احترامها.

إن المقياس الأهم الذي يجب الاستناد إليه في حالة تقييم الرواية الإشكالية يكمن في تحديد إذا ما كان سلمان رشدي قد قال ما قاله انطلاقاً من نظرة شخصية تولدت لديه بفعل مراجعاته التاريخية، أم إنه قال ذلك مدفوعاً بمشروع أملى عليه الذهاب نحو ذلك القول، ويستوي في ذلك أن تكون الدوافع شخصية، من نوع اكتساب الشهرة وكسب المال، وبين أن تكون، تلك الدوافع أيضاً، قد جاءت بإملاءات خارجية تحقيقاً لمرام بعيدة، ومن الراجح أن رشدي كان قد ذهب إلى ما ذهب إليه انطلاقاً من الدافع الثاني الذي نقصد به الاستجابة لدوافع خارجية جاءت لتتلاقى مع طموحات الرجل الباحث عن الشهرة والمال، لكن ذلك لا يعني تسويغاً لما تعرض له على الإطلاق، وهو بكل المقاييس عمل مدان أيضاً، فإذا ما كان الرجل قد أساء، فهو استخدم الفكر في فعله ذاك، والرد عليه يجب أن يكون بالأداة نفسها التي استخدمها، واللافت هو أن الذين حاولوا القيام بفعل من ذلك النوع من أمثال الباحث الإيراني عطا الله مهاجراني الذي أصدر كتابه «نقد توطئة آيات شيطانية» في سياق الرد على رشدي لم يحظ بـ«المساحة» التي حظي بها الفعل الأول، فـ«بقعة الضوء» كانت متركزة في مكان آخر بعيداً عن مساحات كهذه، وهذا لا يعني على الإطلاق أن «دفاع» مهاجراني كان يقل مستوى عن «هجوم» رشدي، ولكن يعني أمرين، أولاهما أن «المستثمرين» في الحدث كانوا من القدرة حيث جعلوا من «الفتوى» دليلاً على حال من الانغلاق يعاني منها الفكر الإسلامي، وإذا ما كان بعضه صحيحاً، إلا أن الثابت هو أن أولئك كانوا مدركين لفكرة أن «نسف تراث» وإحلال آخر مكانه هو فعل سيقود إلى تغيير هوية أمة برمتها، وثانيهما أن الاستهداف تركز على «الثورة الإيرانية» التي اختارت لنفسها دور «رأس حربة» للدفاع عن الذات الإسلامية وهويتها، ومثل هذا لم نره يحدث في تيارات الإسلام الأخرى التي اكتفى معظمها بالتحفظ والإدانة، إذا كان التصويب هنا يأتي في سياق المواجهة مع «الراديكالية الشيعية» بالدرجة الأولى، ولا أدل على ذلك من أن الفعل خبا بريقه بعيد أحداث 11 أيلول في نيويورك التي عنت عند الغرب انتقالاً لـ«الراية» من يدي هذي الأخيرة إلى يدي الوهابيين.

في تقييم رد الفعل لا بد هنا من التمييز بين «تدين» العامة، وبين «تدين» رجال الدين أو النخب التي تمارس العمل السياسي تحت راية الدين، فالأخيرة غالباً ما تأتي مواقفها في سياق حساباتها للفعل، أي فعل، والتداعيات التي يمكن أن تترتب عليه، على حين أن مواقف الأولى، أي العامة، على الفعل نفسه يأتي في سياق الدفاع عن الذات والهوية، وحفظاً لمنظومة تراها محددة لكلتا الاثنتين، ومن الواضح أن ثمة فرقاً جوهرياً بين الاثنين، ولذا من المؤكد أن الأخيرة، أي العامة، لا تنتظر القرار بانطلاق السهم من القوس حتى تبادر، ولا تجد نفسها معنية بإصدار «فتوى» يمكن أن تمثل غطاء لردة فعلها، الأمر الذي يمكن تأكيده عبر استذكار ما جرى مع مجلة «شارلي إيبدو»، المجلة الفرنسية التي نشرت رسوماً مسيئة لنبي الإسلام الكريم في العام 2015، عندما جرى اقتحام مقرها وقتل 12 من العاملين فيها، وفي حينها لم تكن هناك «فتوى» وجل ما كان هو أن جماعة متطرفة بادرت فاندفعت في سياق ارتأت أن من شأنه «الانتصار» لدينها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن