في هذا الشرقِ البائس قد لا تبدو بحاجةٍ إلى تيلسكوب دقيق أو مجهر متطور حتى ترى حجم ما نعانيهِ من انفصامٍ في شتى المجالات، هذا الانفصام جعلنا شعوباً أقل ما يُقال عنها شعوب اللارأي، اللاموقف، اللاثوابت.
هناك من سيجد ألف مبررّ لهذه الحالة المزرية التي وصلنا إليها بعدَ أن كنا سادةَ الرأي والقرار والموقف، قد نضحك حتى البكاء إن سمعنا أحدهم يقول:
و كيف تطالبني بموقف وأنا لا أجد موقف باصٍ أنتظر فيه حافلتي بكل احترام؟ كيف تنتظر مني الدفاع عن الثوابت والثابت الوحيد في حياتي هو البؤس؟ كيفَ تنتظر مني قراراً مصيرياً وهناك من يقرر عني منذ أن كان عمري خمس سنوات؟ تخيل أنهم قرروا عني إلى أي المنظمات الشعبية سأنتمي وأي قسَمٍ سأقسم وأي الشعارات سأتبنى؟ هناك من قرَّر عني حتى الفريق الذي سأشجعه هل لكَ أن تتخيل مثلاً ردة الفعل لو جاهرتَ بتشجيع الفريق الإنكليزي بكأس العالم القادمة؟ ربما سيتهمونك بوهن عزيمة الأمتين.. يالنا من محظوظين.. لدينا أمتين
كلاهما يمارس دور العالة على التاريخ؟!
لكن في المقابل قد يعترض البعض على هذا الكلام ويعتبره تحميل المجتمع أكثر مما يحتمل، سوداوية تركت مجتمعاتها المستهدفة تقاتل وحيدةَ في معارك تستهدف كيانها ووجودها، هل حقاً أن هناك من يستهدفنا أم إننا نحن من استهدفناها حتى بتنا نطلق النيران على أنفسنا؟
منذ اللحظة التي انتشر فيها خبر طعن الكاتب «سلمان رشدي» بالسكين ودخوله في الغيبوبة، تعاطيت مع الخبر على طريقة الأخبار التي تتحدث عن حصول شرطي في جزر المالديف على رشوة، هل لكم أن تتخيلوا أهميته بالنسبة لي؟! فلا النيل من الكاتب أراه انتصاراً لدين أو فكراً بل على العكس هو تعميق لفكرة أن المتاجرة بالدين الإسلامي حولته إلى قاتل مأجور أياً كانت الجهة التي تتاجر، ولا فكر الكاتب يعنيني لأني بالمطلق أميِّز بين النقد والإساءة، لكن حتى هذا التجاهل لم يسعفك، فإن لم تكتب عن هذا الحدث لتقول معلقاتٍ بالكاتب أو الضحية، فهذا يعني أنك شخص خارج الفكر التنويري وهذا المصطلح بالمناسبة يبدو شقيق مصطلح باحث في الشؤون الإستراتيجية.
كلاهما يعتمدان على جمع اللايكات والعبث بالعواطف، أما إن كتبت رافضاً فكرةِ قتل إنسان نتيجة لخلاف على أفكار طرحها تحديداً عندما تستند الجريمة بالمطلق إلى فتوى أجازتها، هنا يخرج إلينا الانفصام الذي تحدثنا عنه، ذات الأصوات التي هاجمت شيخ الفتنة يوسف القرضاوي وغيره من شيوخ الفتاوى مسبقة الدفع انتفضت لتدافع عن فتوى تصب في ذات السياق قتل البشر، من وكلنا بذلك؟
في الخلاصة: نحن نعيش وهماً اسمه الوسطية، هذه الوسطية قادرة ببساطة أن تتلاشى في لحظات فقط عندما نتشارك جميعاً بتقديم النقل على العقل، ليصبح المثقف والإعلامي وحتى عامل المجبول البيتوني متطوعين لتبرير القتل.. أي انفصامٍ نعيشه؟!