محاولة اغتيال الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين في موسكو، والتي ذهب ضحيتها ابنته داريا، الوطنية الروسية، التي كانت في عداد وفد تضامني زار دمشق عام 2018 إذا لم تخنِ الذاكرة، وعبرت بلغتها الفرنسية المتقنة آنذاك عن تضامنها مع سورية وشعبها في الحرب الدفاعية الوجودية التي تخوضها، وكانت الدعوة آنذاك من قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، ليست قضية عابرة، أو رسالة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين كما كتب البعض، وإنما هي استمرار لحرب العقول والأفكار التي يخوضها الغرب العولمي ضد الروس والسوريين والإيرانيين، والصينيين واللاتينيين، وغيرهم من الأمم والشعوب التي أدركت من خلال مفكريها أن التحرر من الهيمنة الغربية ليس مادياً فقط، بل روحياً وفكرياً، من دون إدراكنا لطبيعة حرب الأفكار والعقول الدائرة الآن لا يمكننا أن نتحرر أبداً.
لم يكن ألكسندر دوغين الفيلسوف الروسي الوحيد الذي قاد عملية انعتاق الروس من ربق الليبرالية الغربية التي غرزها الصهاينة في كل مفصل من مفاصل الدولة الروسية بعد مرحلتي آخر زعيم سوفييتي ميخائيل غورباتشوف، والرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين، وكان الهدف منها تدمير الانتماء والهوية والتاريخ، وبث اليأس في عقول الشباب، وتحويل روسيا إلى دولة بلا روح ونكهة، بلا بوشكين وتولستوي ودوستويفسكي، بلا موسيقا وبلا مسرح وبلا ثقافة، وكأنها دولة ولدت الآن لا تاريخ لها، لا كرامة ولا وطنية، وكان هذا هو ديدن الغرب العولمي.
ألف دوغين أكثر من ثلاثين كتاباً دافع من خلالها عن أهمية إعادة توحيد روسيا، وخلق إمبراطورية روسية تضم أوكرانيا، وأسس لذلك من خلال كتابه الشهير «أسس الجيوبوليتيك» عام 1997، حيث انتقد فيه النفوذ الأميركي في أوراسيا، داعياً لإعادة النفوذ الروسي هناك، وكان كتابه من الكتب المدرجة للقراءة في المؤسسات العسكرية الروسية.
اتجه دوغين نحو تأسيس حركات سياسية اجتماعية ضد الأفكار الغربية حول مستقبل أوراسيا، والتي كانت النُخب الليبرالية الصهيونية الروسية تعمل على نشرها من خلال هيمنتها على وسائل الإعلام والمراكز العلمية والثقافة الروسية، كما أسس حركة شبابية روسية واسعة لتحضير جيل شاب روسي منتمٍ لوطنه، وخالٍ من اللوثة الغربية التي اجتاحت روسيا ومجتمعها طوال عقدين من الزمن، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991.
لم يكتف دوغين بذلك بل ترأس هيئة تحرير تلفزيون «تسار غراد» المؤيد للكرملين، وهي محطة وطنية روسية مملوكة لرجل الأعمال قسطنطين مالوفييف، الذي دخل قائمة العقوبات الأميركية والقائمة الأوروبية عام 2004 على خلفية اتهامات له بتأسيس مجموعات تقاتل في الدونباس.
ولإدراك أن الأميركيين يخشون المفكرين والمؤثرين في الرأي العام، قامت وزارة الخزانة الأميركية بإضافة اسم دوغين لقائمة المواطنين الروس المعاقبين بسبب ما سمته انخراطه في الحرب الأوكرانية عام 2015، ودققوا في هذه العبارة التي قالتها: «إن دوغين مسؤول عن أعمال وسياسات تهدد السلام والأمن والاستقرار ووحدة أوكرانيا»، كما قاطعت موقع «جيوبوليتيكا»، وهو الموقع الذي يعتبر منصة للحركة القومية الروسية، وكانت توجه أفكارها ومقالاتها للرأي العام الغربي، الأمر الذي رأوا فيه خطراً عليهم، كما هو حال وسائل الإعلام الروسية التي حُجبت عن المشاهد الغربي، ثم يحدثنا الغربيون عن الديمقراطية والحريات في بلادنا، ويطلبون منا الانصياع الكامل والاستسلام لأفكارهم وطروحاتهم التي اعتبروها «نهاية التاريخ»!
لم يكتف الأميركيون بمعاقبة دوغين الأب، بل عاقبوا ابنته الشهيدة داريا، التي عبّرت عن اعتزازها ووالدها باستهدافهما بالعقوبات الغربية، وكانت تصف الحرب بين روسيا والغرب في أوكرانيا بأنها «صراع بين العولميين، والحضارة الأوراسية».
ما من شك أن الغرب يرى في المفكرين خطراً داهماً، وخاصة عندما يندمج هؤلاء بقضايا شعبهم وأمتهم، ولهذا نجد أن الصحفي في الـ«واشنطن بوست» ديفيد فون دريهيل يصف دوغين أنه «نبي فاشي للإمبراطورية الروسية»، لكن المضحك أن الصحفي الأميركي لا يرى في هنتغتون، أو فوكوياما، أو برنارد هنري ليفي، فاشيون أبداً، بل مبشرون لقيم الغرب الليبرالي الجديد، ولتدمير مجتمعاتنا، وتقطيعنا إرباً إرباً ومذاهب وطوائف وعشائر وقبائل، وهذا الطرح نُظّر له من قبل هؤلاء المفكرين الغربيين، ومع ذلك لا يحق لنا ولا للروس الدفاع عن بلداننا، ومجتمعاتنا وقيمنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا، بل يجب أن نكون مستسلمين لهم، ولما يطرحونه من قيم منافقة كاذبة لا هدف لها سوى خداعنا وتضليلنا، ومن هنا أي مفكر يكشف دعايتهم يرون فيه قومياً متطرفاً أو فاشياً أو قومجياً أو أسدياً، أو مؤيداً للدكتاتورية، وفقاً للمصطلحات التي يستخدمونها.
قبل اغتيال ابنته داريا، كتب دوغين على قناته في تلغرام ما يلي: «الهجمات المتزايدة على القرم، ومحاولة استهداف محطة زابوروجيه النووية، والهجمات المضادة على خيرسون تؤشر لرفض زيلينسكي للحلول الوسط، كما أن الإصرار الغربي على قطع كل الصلات مع روسيا تؤشر إلى أن الطرف الآخر قرر المضي حتى النهاية، لكن عليهم أن يفهموا: أن روسيا تحدت الغرب كـحضارة «وهذه ليست دعاية» لذا سيتعين علينا أيضاً أن نقطع كل الطريق حتى النهاية».
المضي حتى النهاية، وحتى النصر، وهذا ما طالب به دوغين الروس بعد فاجعة مقتل ابنته، ولم يطالب بالانتقام، لأن الانتقام كما قال لا ينتمي لأخلاق الروس، وما دامت هذه الإرادة موجودة، وهذه النظرة القوية والثابتة والواثقة قائمة فالنصر سيكون حليف الشعوب المستعدة للتضحية في سبيل أوطانها، ومستقبل أجيالها.
قبل سنتين من احتلال العراق عام 2003 أعلن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن أنه «لا يريد غزو العراق، إنما تحرير الشعب العراقي»، وكانت عملية التحرير هذه قد أدت لمقتل مليون عراقي بين شهيد وجريح، وجرائم تعذيب يندى لها جبين الإنسانية، والأهم وفقاً لوثائق مسربة اغتيال 350 عالماً نووياً، و80 ضابطاً في سلاح الطيران وأكثر من 200 أستاذ جامعي بين 2003-2006، وكان الرئيس بشار الأسد قد كشف في أحد لقاءاته الصحفية أن أحد شروط الإدارة الأميركية ممثلة بوزير الخارجية الأميركية الأسبق كولن بأول التي رفضها آنذاك، أي في نيسان 2003، كان منع انتقال العلماء والأكاديميين العراقيين إلى سورية.
في الحرب على سورية كان العلماء والمفكرون أحد أهداف فرق الموت والاغتيال، لا بل استهدف كل وطني سوري في هذه الحرب عمالاً وفلاحين وجنوداً وضباطاً وأساتذة جامعيين وأطباء ومهندسين وتجاراً ورجال دين… ولكن لا حل أمامنا سوى المواجهة حتى النهاية، والنصر.
أما أولئك الذين رهنوا أنفسهم لأعداء بلدهم في روسيا، وسورية، فلا ينطبق عليهم سوى توصيف فيدور دوستويفسكي في روايته «الشياطين»، إذ كتب: «الليبرالي الروسي عندنا هو قبل كل شيء خادم، لا هم له سوى البحث لكي يُنظف حذاء أحد ما»، وأعتقد أن الأمر ينطبق على أمثاله من السوريين.
رحم الله الدكتورة داريا دوغينا، وتعازينا للبروفسور ألكسندر دوغين، ولا حل أمامنا سوى المواجهة حتى النصر.