قبل أن أسافر إلى روسيا لأول مرة قبل نصف قرن ونيف أوصاني أحد الأصدقاء أن أحضر له مفتاح الروح الروسية في زجاجة. يومها ضحكت، ولم يكن يجدر بي أن أفعل، فروح روسيا، كما تبين لي لاحقاً، لا تعبأ في زجاجات. بل تكمن في أدب وفكر وفن العباقرة من أبنائها.
في مطلع الأسبوع الماضي جرت محاولة اغتيال للفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين في موسكو، ذهبت ضحيتها ابنته الصحفية داريا، والفيلسوف دوغين شخص استثنائي يتكلم تسع لغات بالإضافة إلى اللغة الروسية، ويحمل شهادتي دكتوراه، الأولى في العلوم السياسية، والثانية في العلوم الاجتماعية. وهو رئيس قسم علم الاجتماع للعلاقات الدولية في جامعة موسكو الحكومية.
لكن مشروع دوغين الأهم يتجلى في الحركة الأوراسية الدولية التي تتبنى «النظرية السياسية الرابعة» التي لا تركز على الفرد أو العرق أو القومية وإنما تركز على الوعي الذاتي الإنساني الذي همشته التكنولوجيا، وتقدم روسيا «كصاحبة رسالة شاملة، قارية، وثقافة خاصة، تجمع بين الخصائص الشرقية والغربية».
تهدف الأوراسية لتحرير الروس من ربقة الليبرالية الغربية التي سيطرت على جل مفاصل الدولة الروسية بعد قيام ميخائيل غورباتشوف بإلغاء الاتحاد السوفييتي وخاصة في زمن السكير يلتسين.
وتستمد الأوراسية أهم توجهاتها من أدب عبقري الرواية فيدور دستويفسكي الذي عبر عن احتقاره للبراليين الروس في روايته «الشياطين»، كما سخر في كتابه «مذكرات كاتب» الذي صدر عام 1873 من «المستغربين الروس»، « الهائمين بالحضارة الأوروبية»، ولهذا فليس من المستغرب أن يعرب الرئيس بوتين عن اهتمامه بأعمال دستويفسكي، التي تدعو حسب رأيه إلى انتهاج طريق أوراسي حضاري لا إلحاد فيه، ولا انفلات، ولا تعصب.
ونظراً لتأثير دوغين الكبير في روسيا فقد تمت شيطنته من قبل الإعلام الغربي الذي لقبه بـ«راسبوتين بوتين» كما وصفته جريدة «واشنطن بوست» بأنه «نبي الإمبراطورية الروسية الفاشستي» لكن الكلمات التي قالها دوغين بعد اغتيال ابنته على مرأى منه، تفند افتراءات الإعلام الغربي بحقه، وتثبت بوضوح بأنه إنسان كبير، فقد قال: «لا نبحث عن الانتقام أو القصاص، فذلك صغير، ولا يعبر عن قيمنا الروسية، نحن نبحث فقط عن الانتصار، ابنتي وضعت حياتها على مذبح الوطن، ولهذا أرجوكم، انتصروا».
عندما زرت روسيا للمرة الثانية في عهد يلتسين كانت موسكو تعيش حالة أقرب إلى الانفصام، فالأسعار نار، وجل أكشاك الصحف تعرض في واجهاتها المجلات الإباحية الأميركية وغيرها، في حين المسارح ودور الأوبرا تتابع تقديم فنها الراقي بمقاعد ممتلئة!
صباح اليوم الثالث من تلك الزيارة تكرم الصديق العزيز نوفل نيوف بتخصيص يومه كاملاً ليريني موسكو، وبعد أن حَصّنني بأثقل ثياب لبستها في حياتي، انطلقنا. أثناء نزولنا إلى مترو موسكو رأيت سيدة جالسة إلى جانب كشك يعرض المجلات الإباحية الغربية، وقد لفت انتباهي أنها كانت تقرأ باستغراق في كتاب سميك، دون أن تلتفت لحشود النازلين والطالعين، طلبت من الصديق نوفل أن يسأل السيدة عما تقرأه، فأجابت «الأحمر والأسود» لستاندال. يومها قلت لأخي نوفل: هذه الأمة لن تموت. وها هي روسيا تستعيد روحها من خلال تضحيات أبنائها.
تحية لشعب روسيا الصديق الذي صار أخاً لنا في التراب، بعد أن امتزجت دماء جنوده البواسل بدماء جنودنا الأبطال فوق تراب سورية.