خلال معايشتي الطويلة للإعلام والصحافة منذ ثمانينيات القرن الماضي رأيت نماذج من الناس لا يمكن أن يتخيلها إنسان مهما بلغت قدراته التخيلية، فقد رأيت وعايشت المسؤولين والوزراء الذين حين كانوا في مواقعهم لا يمكن أن تصل إليهم، وإن قابلتهم تعاملوا معك تعاملاً فوقياً سلطوياً، وأعفي نفسي من ذكر الأسماء، قد يقول قائل: هذه أمور شخصية مصلحية أنتقدها لأنني لم آخذ منهم ما أريد! علماً بأنني لم أتقدم بمشروع في يوم، ولم أطلب استثناء، فأنا أتدبر أموري بنفسي، ووفق حاجاتي ومتطلباتي القليلة، ومطامحي المحدودة.
ولكن ما لفت انتباهي كانت تلك الروح الأنانية لدى كثيرين منهم، فواحد يطلب أن يبقى بمكتب مهمل وكرسي متواضع، المهم أن يتلطى بالسلطة والموقع، وبعضهم، بعد كل ما جناه يسعى لوظيفة داخلية أو خارجية ليأخذ فرصة شاب قادم خبير إلى وسط العمل، وبعضهم كان يتردد إلى المنابر الإعلامية، وقد صار بقدرة قادر كاتباً وناقداً، ويجلس ليدبج المقالات المطولة في آليات إصلاح قطاع كان مديراً له أو وزيراً له، ولم يفعل شيئاً له قيمة عندما كان يتربع على عرشه! وحين تسأله: أين كانت هذه الآراء عندما كنت وزيراً؟ يجيبك بهمس: لم يكن الأمر بيدي! فإذا كان الأمر ليس بيدك لماذا تنطحت للبقاء؟
وإذا كنت تعرف الحقيقة، وبأن المسؤول والوزير ليس بيده شيء فلماذا تقوم بنقده ووضع الخطط؟ هذا مع العلم بأن ادعاء عدم المسؤولية ليس مقنعاً، ولابد لأي مسؤول من هامش مهني أو تقني يتعلق بقطاعه يمكن أن يترك فيه عملاً وأثراً، وإذا سلمنا بأنه ليس بيده أشياء، فتلك يتركها من أجل سياسة عليا في البلد، علماً بأنني لست على قناعة بذلك!
وهذا الذي اكتشف الخطط الإصلاحية يستثير العجب، إذ كان عليه أن يطبقها ولو خالفت الآخرين، وليرحل ويصمت، عندها نقول له: لقد حاولت، لكن المنظومة التي تحيط بك كانت أقوى.. ونتقبل منك ما تتفضل به، ونعرف أنك لم تستطع فعل شيء على الحقيقة! أما أن تمارس كل أنواع السلطوية والإقصاء والمحسوبية، وتحرق كل من يحمل بشارة معرفة لتبقى أنت، وبعدها تحاول أن تخرج بريئاً منظراً فهذا أمر مرفوض.
أما الأغرب والأطرف والأدعى إلى الحزن على الوطن، فذلك الصنف الذي لا يفعل شيئاً في إدارته أو وزارته، وربما يخرج منها تحت ارتكابات أو سوء فهم أو تقصير، وما إن يخرج من مكانه حتى ينهال على الناس في وسائل التواصل، فتراه ثائراً ناقداً، ويتم تناقل بوستاته بالفيس والواتس، ويتعجب من أمرين: العجز والفساد!
يضع الخطط الواتسية والفيسبوكية، وينال من الجميع، ولكل أمر عنده حل خلال دقائق!
والناس تقرأ وتسخر، وتسأل: أين كنت؟ وبعضهم يقول: انتهت أيامك، كان زمان! وبقدرة قادر وتدبير مدّبر لا نعلم من هو، يعود واحدهم، وهو مقصر أو مرتكب إلى الواجهة من جديد، ويعود إلى سابق عهده، وكل من ينتقده يصنفه بأنه صديقه السابق، أو مستنصب، أو خائن للوطن، ولا يدرك ما يتعرض له الوطن من حرب! يجعل نفسه الوطن، يحصر الوطنية في نفسه، وكل من ينتقده خائن!
يفعل ما يشاء، يقرّب أصدقاءه، يرفع أقرباءه، يحقق مصالحه، يُبعد كل القدرات والطاقات ليبقى هو السيد الأكثر فهماً ووعياً، ظناً منه أنه سيبقى خالداً مخلداً!
وهذا الذي ينتقد بوسائل التواصل ويحدثك عن الفساد، ويتحدث عن ضرورة التغيير لعلاج مشكلات الوطن، حين يعود مسؤولاً، وأصمم على فكرة العودة، حين يسألونه عن رأيه فيما يشاع من خطوة قادمة للتغيير، وهو الداعي من قبل إلى الشلع، لا يتواضع ويتحدث حسب إمكاناته، بل يبدأ بالتنظير، بأن التغيير الفردي أو بالأشخاص لن يحلّ المشكلة، ويحدثنا عن آليات العمل والتفكير، وعن منظومات يخترعها بنفسه، وبأن المشكلة ليست في فرد، ويكاد يقول: هذا الفرد لا حول له ولا قوة، يطبق سياسة عامة. فأين كانت هذه الرؤية العظيمة عندما كان يمزق أشلاء سابقيه في الكلام؟ أين المنطقية ليقول: ما فعله السابق كان أفضل مما فعلت لأنني لا رؤية لي أو عندي؟!
أرجوكم، في مواقع السلطة، أو من القراء الكرام، تابعوهم بعض الوقت فالتغيير قادم لا محالة وفي أوانه، وما من واحد يمكن أن يبقى في موقعه التنفيذي، تابعوهم، سجلوا آراءهم، لأنهم سيعودون إلى المنابر من جديد ليتحدثوا في حقوق المواطن، وسيفضحون الفاسدين؟! وربما صاروا في جانب معارض! أما رأيتم من كان يسجن ويعذّب ويقصي، وهو يدافع عن حقوق المواطن السوري وكرامته بعد أن صار خارج منظومة السلطة؟
لك الله يا وطن