الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية تقتضي الرد، لكن السؤال الجوهري هو حول ماهية هذا الرد، وللإجابة عنه، يجب البحث فيما وراء العدوان، لفهم الإرهاصات، وتحديد الإمكانات، والبحث عن أدوات الرد، وإلا يكون الرد مقامرة كبرى، من الممكن أن تودي بما أنجزته الدولة السورية، شعباً وجيشاً وقيادة، في حربها على الإرهاب طوال السنوات العشر الأخيرة.
يتصاعد الغضب الشعبي السوري مع كل اعتداء إسرائيلي، مطالباً بالرد على هذه الاعتداءات، التي تتصاعد حدتها من حيث العدد والأثر، واتساع الرقعة الجغرافية المستهدفة، وهو غضب ومطالب ناتجة عن انتماء وطني عال ورافض للاعتداء على السيادة السورية، لكنه عاطفي بدرجة ما، ينظر إلى الأمور من منطق العزة والكرامة والتضحية، على حين أن النظر إلى تلك الاعتداءات وتقييمها والرد عليها يتطلب إضافة إلى ذلك نظرة علمية تحليلية عميقة، سياسية، وعسكرية، واقتصادية، وحتى اجتماعية.
تؤكد القيادة السياسية السورية باستمرار أن الرد على تلك الاعتداءات قائم بطرق مختلفة، مباشرة وغير مباشرة، ولعلنا نستطيع تعداد صور تلك الردود، وأهمها إفشال أو لنقل التصدي للمشروع الغربي الصهيوني في سورية على مدى عشر السنوات الفائتة، تمسك دمشق بثوابتها الوطنية والقومية وعلى رأسها الجولان العربي السوري المحتل والقضية الفلسطينية، التمسك بموقع سورية في حلف المقاومة، والقدرة على تطوير العلاقة مع الحلفاء فيه، تزايد مؤشرات التعافي السياسي السوري من خلال البدء باستعادة العلاقات السورية العربية، واحتمالات عودة دمشق لشغل موقعها في جامعة الدول العربية، ومن ثم إعادة تفعيل الملفات العربية المشتركة وفي مقدمتها ملف الصراع العربي الإسرائيلي، كذلك الحديث المتصاعد عن إمكانية التوصل إلى تفاهمات بين أنقرة ودمشق.
أما عسكرياً، فيبدو أن مشروع الكيان الإسرائيلي بتدمير منظومة الدفاع الجوي السوري على أيدي التنظيمات الإرهابية، قد فشل، وتمكنت دمشق بدعم حلفائها من استعادة التوازن لمنظومتها الدفاعية، وهي الآن تتجه نحو رسم قواعد اشتباك جديدة، لذلك نلحظ خلال الفترة الأخيرة أن الاعتداءات تتركز على منظومة الدفاع الجوي السوري، ومراكز البحوث السورية التي تطور هذه المنظومة، كما تطور منظومة الصواريخ التي تستخدمها المقاومة الفلسطينية في اشتباكاتها مع إسرائيل على الأراضي الفلسطينية.
على صعيد متصل، فإن ما يمكن تقديره بأنه تقدم روسي حتى الآن في المعركة مع الغرب في أوكرانيا، وفي حرب النفط مقابل العقوبات والحصار، وما أثاره الحدث الأوكراني من توترات في العلاقة بين إسرائيل وروسيا، هذا من جهة، في وقت تتوارد الأنباء عن احتمالات التوقيع على الاتفاق النووي بين طهران والغرب قريباً، من جهة أخرى، كلها عوامل قلق بالنسبة للكيان الذي يسعى لتثبيت نفسه في المنطقة عبر فرض قواعد اشتباك جديدة، يرسمها بالاعتداءات، وتمحوها دمشق وحلفاؤها بإحراز المزيد من الإنجازات نحو إنهاء الأزمة السورية.
إن النظر بصورة أشمل إلى أحداث المنطقة والعالم، يمكننا من فهم الأهداف الإسرائيلية من الاعتداءات بشكل أوضح، إذ يظهر لنا أن المقصود بها ليس سورية فقط، وإن كانت المعني الأساسي بها، على اعتبارها تتم على أراضيها وتستهدف أبناءها وبنيتها التحتية، ولكنها في الوقت ذاته جزء لا يتجزأ من المعركة الكبرى الدائرة منذ أكثر من عشر سنوات على الأرض السورية وفي العالم، ومن هذا المنطلق يمكن فهم طبيعة الردود التي تتحدث عنها القيادة السياسية السورية، وهذا لا يلغي الرغبة في رد مباشر مؤلم وموجع للكيان.
من جانب آخر، يجب النظر إلى الوضع القائم من منظور واقعي، فحال الدولة السورية عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، بعد أكثر من عشر سنوات من الحرب، يجعل من الرد المباشر، أمراً ليس سهلاً، ويتطلب حسابات دقيقة، وهو لا يخرج عن كونه محط اتفاق وتباحث وتعاون مع حلفاء سورية الموجودين معها وعلى أرضها والى جانبها في حربها على الإرهاب، والذين هم في الوقت ذاته معنيون بتلك الاعتداءات وبالرد عليها.
باختصار، لا بد من الرد على تلك الاعتداءات، رداً مؤلماً يصيب العدو بمقتل، وهو ما تسعى الدولة السورية إلى بناء الإمكانات اللازمة له، بالعودة إلى بناء المقدرات السورية كما كانت قبل الحرب، وهو ما يسعى كيان الاحتلال في الوقت ذاته إلى عرقلته، من خلال الاعتداءات المتكررة على البنى التحتية السورية، لذلك يجب أن نؤمن بأن عقلنة الرد هي الأنسب في المرحلة الحالية، وهي الرد الأكثر إيلاماً للعدو.