تأصيل شعر الأطفال في الوطن العربي … الصفدي في رصد الحركة الشعرية العربية الموجهة للطفل حتى يومنا
| سارة سلامة
بدا واضحاً أن شعر الأطفال ذو مادة غزيرة أكثر مما يبدو للوهلة الأولى، وإن كانت هذه الغزارة لا تلبي شروط الفن والتربية، بل تجعلنا نزداد قناعة بأن هذا الفن تطور ببطء عبر عقود عديدة من الزمن، حتى استطاع أن يأخذ ملامح تؤهله للدخول إلى عالم الشعر والتربية.
كما أنه في هذه الدراسة التاريخية النقدية التي قدمها الكاتب السوري بيان الصفدي لا يدعي أنها جاءت كاملة، بل لا بد أن يضيف عليها آخرون ويصححوا، والمطمئن هو أنه سعى جاهداً إلى تغطية هذا الموضوع، ولم يدخر جهداً في المستطاع والمتاح إلا بذله.
صدر عن وزارة الثقافة الهيئة العامة السورية للكتاب- دراسة تاريخية نقدية شاملة لشعر الأطفال في الوطن العربي منذ الجاهلية حتى الآن، فيها غنى بالمصادر والمراجع والشواهد، وتهم المعنيين بهذا اللون الشعري من أسر ومربين وأدباء وباحثين، فقد قدمت هذه الدراسة أهم ما يمكن أن يقال في هذا الجنس الأدبي الذي يحتاج إلى المزيد من تسليط الضوء عليه خدمة لأجيالنا.
وكانت الطبعة الأولى من هذه الدراسة نفدت بسرعة، وقد ارتأت الهيئة العامة للكتاب في إعادة نشر الدراسة مدققة ومزيدة خدمة لكل من يعنيهم الأمر من القراء والباحثين، فالدراسات في مجال أدب الطفل- وشعرهم بخاصة- تكاد تكون نادرة عربياً.
اللون الشعري الطارئ
ويبين الصفدي في مقدمة كتابه أنه: «منذ أن ارتبطت بالكتابة للأطفال وأنا أعاني مع المهتمين مثلي من أن ثقافة الطفل مهمشة، في البيت والمدرسة والمؤسسات الرسمية والخاصة، فالاحتفالية هي طابع الاهتمام، لا العمل المنظم المخطط المدعوم ماديا ومعنويا، حتى نقاط الضوء سرعان ما تختفي، مع ذلك فهناك قلة ما زالت تحفر الصخر في هذا كله.
كانت صلتي بشعر الأطفال وطيدة منذ البداية كتابة ونقداً وعملاً، ورحت أتتبع خيوط هذا اللون الشعري الطارئ، منذ كانت إرهاصاً على شكل ترقيص قديم، ومحاولات قص حتى استوى دعوة ناهضة على يد الطهطاوي ومن جاء بعده.
وبدا لي أن تجربة شعر الأطفال العربي قد تطورت وتوسعت، وكثر المشاركون فيها، وصارت بحاجة إلى دراسة تاريخية ونقدية تلقي الأضواء المطلوبة عليها، وكانت لي بدايات متعددة في هذا الجهد متعددة في هذا الجهد، على الرغم من صعوبة الوصول إلى المصادر، وندرة الصوى في الطريق، فقد كانت بداية متواضعة قليلة الزاد، ومع هذا ظللت في شغل دائم أجمع وأسمع وأراسل، حتى أصل إلى ما أستطيع حول موضوع هذه الدراسة، بعد مسح شامل لأكثر المصادر الموصلة إلى الهدف، وإن كان سيبقى المزيد للإضافة والتصحيح.
يؤثر في الطفل
وفي الفصل الأول توغل الصفدي في شعر الترقيص عند الأطفال العرب حيث قال: «لا يمكن لأحد أن يزعم أن في تراثنا شعراً مكتوباً للطفل، لكنه يحتوي ما سمي شعر ترقيص الأطفال، وهو ليس مكتوباً من أجل أن ينشده أو يحفظه الأطفال، بل هو شعر مكتوب بإيقاع راقص يناسب من يرقص الطفل، فيعبر عن عاطفته من ناحية، ويؤثر في الطفل بالصوت والحركة المرافقة للغناء.
ولعل من مميزات شعر الترقيص أن جله مجهول القائل، وهذا ملمح أساس يدل على شعبية هذه المقطوعات وعلى كونها مما يقال بشكل عابر، لا يصدر عن شاعرية تبحث عن التوثيق لها رواية أو كتابة، إنها تشبه بأبيات من الزجل تقال هذه الأيام.
وأصدر الباحث المصري أحمد عبد التواب عوض كتاب «الترقيص والغناء للأطفال عند العرب»، وفيه بعض الإضافات على من سبقه.
هذا اللون لم يقل من شعراء معروفين بل هي من مرتجلات الناس تعبيراً عن عاطفة أو حاجة للتسلية أو المرح.
من ذلك قول أعرابية
يا حبذا ريح الود.. ريح الخزامى في البلد.. أهكذا كل ولد.. أم لم يلد مثلي أحد؟
إنها مقطوعة مشهورة، امتازت بالصدق واللغة السهلة العذبة، وإيقاع في غاية القصر، حيث تكتفي الأعرابية هنا بمجزوء الرجز، وعلى الوزن والإيقاع والقافية نفسها تقول أعرابية أخرى:
يا حسرتا.. على ولد
أشبه شيء بالأسد
إذا الرجال في كبد
تغالبوا على نكد
كان له حظ الأسد
إن هذه المقطوعات التي تعبر عن محبة الولد هي الأكثر دوراناً في تراثنا، ومن الأبوين، إذ نقرأ لجرير يرقص ابنه بلالاً بقوله:
إن بلالاً لم تشنه أمه.. لم يتناسب خاله وعمه.. يشفي الصداع ريحه وشمه.. ويذهب الهموم عني ضمه.
شعراء الأطفال حتى الخمسينيات
وتحت هذا الفصل يبين الصفدي أن: «سورية رزخت تحت وطأة سيطرة عثمانية مباشرة، فنالها ما نالها من سياسات العسف والتتريك، مما نستطيع أن نعرف تفصيلاته في الكتب التاريخية التي تعرضت لهذه المرحلة، إلا أن ما يهمنا قوله هو أن شعر الأطفال كان محاولات نادرة، وعلى شكل حكايات منظومة تهدف إلى التوجيه والتربية، لكن ما إن قامت في سورية الحكومة العربية عام 1918 حتى فتحت البلاد نوافذها على بداية تعليم يضع العربية لغة قومية في قلب مهماته.
ومعروف أن كوكبة من أدباء بلاد الشام ومربيها قد التفت حول هذه الحكومة الوليدة، وراح بعضهم يضع على عجل قصائد وأناشيد لتلاميذ المدارس، في جو حماسي من الدعوة إلى العروبة وسورية وقيم العلم والحضارة والوحدة الوطنية، في إيقاع موحد تردد لدى شعرائنا الذين أسهموا في هذه التجربة».
من الفوائد والنتائج
ومن أهم الفوائد والنتائج التي وصل إليها البحث: «التأريخ المنظم للحركة الشعرية الموجهة للأطفال، والكشف عن تجارب مجهولة تماماً كمجموعة «روضة الأطفال» للشاعرة السورية جسماني شقرا التي تعد أول شاعرة عربية تؤلف ديواناً للأطفال، وكثير من القصائد المنشورة لآخرين، التقييم والتقويم النقديان للتجارب الشعرية العربية للأطفال، النظر إلى التجربة العربية كأجزاء من مشهد شعري واحد، وإن اختلفت عطاءاته، تجاوز الطريقة الفوضوية التي حكمت التأليف في مجال شعر الأطفال، إلى توثيق المعلومة، وأمانة النقل من المصادر والمراجع، والاعتراف بالجهود السابقة على قلتها، إيلاء الجانب الفني عناية خاصة لما لذلك من أثر في الدخول إلى صلب قصيدة الطفل لغة وإيقاعاً وصوراً وبناء وتربية».