قضايا وآراء

غزوة الحصن الأخير

| أحمد ضيف الله

في تطوّر جديد وتصعيد خطير للأزمة السياسية في العراق، طال هذه المرة السلطة القضائية بعد السلطة التشريعية، توجّه العشرات من أنصار التيار الصدري صباح الـ23 من آب الجاري، إلى مجلس القضاء الأعلى الذي يتمتع بحماية مشددة في المنطقة الخضراء الشديدة التحصين في بغداد، وقاموا بنصب الخيام والاعتصام أمام مبناه، حاملين لافتات تتهم القضاء الأعلى بـ«التواطؤ مع الفاسدين»، مطالبين بـ«استقالة فائق زيدان» رئيس مجلس القضاء الأعلى، وهي ليست المرة الأولى التي يشهد فيه مبنى مجلس القضاء الأعلى احتجاجات صدرية، فقد سبق في الـ30 من تموز الماضي، أن قام العشرات من أنصار التيار الصدري بمحاصرته لبضع ساعات، قبل الانسحاب من المكان بعد تغريدة صالح محمد العراقي، وزير القائد الصدر، بمنع «التعدي على مقرات القضاء والرجوع إلى مجلس النواب».

مجلس القضاء الأعلى، وفي رد سريع وحاسم، أعلن في بيان له، أنه «على إثر الاعتصام المفتوح لمتظاهري التيار الصدري أمام مجلس القضاء الأعلى للمطالبة بحل مجلس النواب عبر الضغط على المحكمة الاتحادية العليا، وإرسال رسائل تهديد عبر الهاتف للضغط على المحكمة» تقرر «تعليق عمل مجلس القضاء الأعلى والمحاكم التابعة له والمحكمة الاتحادية العليا احتجاجاً على هذه التصرفات غير الدستورية والمخالفة للقانون وتحميل الحكومة والجهة السياسية التي تقف خلف هذا الاعتصام المسؤولية القانونية إزاء النتائج المترتبة على هذا التصرف»، بالترافق مع إصداره أوامر إلقاء القبض بحق ثلاثة من قياديي التيار الصدري، اتهموا بالتحريض على القضاء وتهديده، إضافة إلى ضباط من القوات الأمنية لتقاعسهم في حفظ الأمن في محيط المجلس، واضعاً التيار الصدري في موقع الفاعل المتسبب بتعطيل عمل المحاكم ومصالح العراقيين.

الاعتصام أمام مقر مجلس القضاء الأعلى صعّد من حدة الأزمة السياسية إلى الحد الذي أصاب الأغلبية العظمى من العراقيين بالرعب والخوف والارتباك من تبعات ما سيجرى، ما أجبر رئيس حكومة تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي، على قطع زيارته إلى مصر والعودة فوراً إلى بغداد.

سرعة الرد واللهجة الصارمة التي تضمنها بيان مجلس القضاء الأعلى، الذي مثل أعنف لهجة تصدر من مؤسسة رسمية تجاه التيار الصدري، محملاً إياه بالاسم والحكومة، «المسؤولية القانونية» إزاء النتائج المترتبة على الاعتصام أمام مقرّه، إضافة إلى ردود الفعل المستنكرة التي قوبل بها اعتصام أنصار التيار الصدري من جميع القوى السياسية العراقية إضافة إلى حلفائه السابقين في المجلس النيابي، الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة، دفعت التيّار الصدري بعد بضع ساعات من الاعتصام إلى الانسحاب من أمام المقر، «للحفاظ على سمعة الثوّار الأحبة ولعدم تضرر الشعب»! على أن تبقى الخيم «أمام مبنى المجلس»، و«ليستمر اعتصامكم أمام البرلمان» بحسب ما نَقل بيان عن مقتدى الصدر.

وعلى إثر ذلك قرر مجلس القضاء الأعلى في بيان له، «استئناف العمل بشكل طبيعي في جميع المحاكم» اعتباراً من صباح اليوم التالي.

في العراق اليوم حكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات، ومجلس نيابي معطل ومحاصر، وقضاء يُعد الحصن الأخير الباقي في العراق، تعمّد أنصار التيار الصدري غزوه وحصاره لتعطيله هو الآخر، كي تُفتح أبواب الانفلات على مصارعه، وقد بح صوت مجلس القضاء الأعلى، وهو يؤكد أنه «لا يملك الصلاحية لحلّ ‏مجلس النواب»، راجياً «الجهات السياسية ‏والإعلامية كافة إلى عدم زجّ القضاء في الخصومات والمنافسات السياسية».

حالة الفوضى والانسداد السياسي التي يعيشها العراق منذ الانتخابات النيابية المبكرة في الـ10 من تشرين الأول 2021، لا سبيل للخروج منها سوى الجلوس حول طاولة حوار للتفاهم بشأن مراحل الخروج من الأزمة، وفق المسارات الدستورية، التي تقضي عقد جلسة للمجلس النيابي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، يُكلفُ بدوره رئيس حكومة جديداً، لتشكيل حكومة جديدة، يكون من مهامها إجراء انتخابات نيابية مبكرة خلال مدة زمنية يُتفق بشأنها، وخلالها يقوم المجلس النيابي بإجراء الأعمال المطلوبة منه كتعديل القانون الانتخابي، وإعادة تشكيل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وإقرار الموازنة المالية العامة للدولة، وغيرها من الإجراءات اللازمة لهذه المرحلة، ومن ثم اتخاذ قرار حله.

للأسف، مقتدى الصدر وضع نفسه في كفّة، وكلّ القوى السياسية الأخرى التي تريد التوصّل إلى تسوية للنزاع في كفّة أخرى، رغم أن حراكه في الشارع، وصل إلى طريق مسدود، وبلغ بمحاولة الاعتصام أمام مجلس القضاء الأعلى أقصى مداه، من دون أن يستطيع تحقيق أي مكسب يمكن أن يُترجَم على أرض الواقع كنصر سياسي.

مقتدى الصدر لا يملك ما يؤهّله حسم معركة كهذه، لا في الساحة السياسية العراقية العامة، ولا في ساحة البيت الشيعي، رغم قدرته على تحريك شارعه المطيع والملتزم بأوامر «القائد»، فهل يدرك محرضوه ذلك؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن