قضايا وآراء

في أبعاد التحول التركي

| عبد المنعم علي عيسى

ارتفع منسوب التصريحات الصادرة عن أنقرة تجاه دمشق بشكل ملحوظ خلال الأسبوع الماضي، حتى أضحى الفعل لافتاً في اندفاعته وسرعته، التي يريد الوصول عبرها إلى ذروة لا بد وأنها تكاملت عند الأتراك حتى بدت مرتسمة الملامح قبل أن تجهز «طاولات» الحوار، و«منابر» المؤتمرات الصحفية التي تعقب عادة الفراغ من هذا الأخير، واللافت هو أن عامل الوقت يبدو ضاغطاً ما استدعى تكشف الملامح آنفة الذكر بشكل سريع.

في الوقت الذي كان فيه وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد يلتقي نظيره الروسي في موسكو يوم الثلاثاء الماضي، ويعقد معه في أعقاب انتهاء مباحثاتهما مؤتمراً صحفياً أوحى بأن الأخيرة، أي المباحثات، كانت تدور حول كيفية نقل الفعل، أي التقارب السوري – التركي، من الحيز «الإعلامي» إلى الحيز «العملي»، في ذلك الوقت كان وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، يقول وفق ما نقلت عنه وكالة «رويترز» بأنه «لا يمكن أن يكون هناك شرط للحوار» ما يشير إلى تخفيض السقوف التركية بدرجة أكبر من تلك التي وصلت إليها سابقاتها، وهي بكل الأحوال لم تكن مرتفعة، وكذا بدرجة كافية تدفع دمشق نحو مغادرة «الحذر» الذي تبديه حيال التحول التركي، الذي سيغدو فيما لو حدث، الانعطافة الأبرز في مسار الأزمة السورية منذ نشوئها بعد عملية «عاصفة السوخوي» التي أطلقها الروس في سورية خريف العام 2015.

وضعت «الأتاتوركية»، منذ قيامها عام 1923، تركيا في خضم موج متلاطم ما انفك يبدي حالاً من العداء تجاهها، وجزءاً من هذا الأخير كان ناجماً عن موروث تاريخي بحكم أن الكيان الوليد، الجمهورية التركية، هي وريثة «الإمبراطورية العثمانية» سيئة الصيت إبان حكمها للعديد من دول الجوار مثل سورية والعراق وقبرص وأجزاء من اليونان وبلغاريا، لكن جزءاً آخر منه، أي من ذلك العداء، كان قد تولد بفعل سلوك الجمهورية الجديدة طريق «الغرب» الذي قادها لأن تصبح عضواً في حلف «الناتو» عام 1952، وهذا ستكون له منعكساته ليس على الجوار «المعادي» سابق الذكر فحسب، بل على جوار يقبع على ضفاف أخرى هي أوسع مدى وأكثر تأثيراً، فعضوية الـ«ناتو» جعلت من تركيا «مركز مراقبة» متقدماً لما يجري على الأراضي السوفييتية التي كانت تمثل ما بين 1945 – 1989 القطب الذي يتهدد الهيمنة الأميركية على العالم، بل وينازعها السيطرة على هذا الأخير، لكن ذلك «المركز» تضاءلت أهميته ما بعد هذا التاريخ الأخير بدرجة باتت تهدد الدور الوظيفي للكيان، بكل ما يحمله هذا التهديد الأخير من تداعيات محتملة اقتصادية وسياسية يمكن أن تفضي من حيث النتيجة إلى عواقب من النوع الذي يطول الأمن والاستقرار التركيين، بل ويهدد بتفجير التركيبة التركية التي تحمل بين ثناياها الكثير من «الألغام الموقوته» وهي لا تحتاج، في أقصى حالاتها، إلا لـ«صاعق» منتج للشرارة، ولـ«ناقل» لهذا الأخيرة إلى «غرف الانفجار».

وجدت تركيا نفسها فجأة، عام 1991، دولة هامشية عبر المسافة التي تفصل ما بين الدور الجديد وبين القدرات والإرث، أقله فيما يرى منظروها، فراحت قياداتها، ومعها نخبها وتياراتها السياسية، تجترح الفرضيات والنظريات، ثم راجت عمليات تجريب الإيديولوجيات المناسبة لتحقيق تلك الفرضيات والنظريات، كانت البداية مع «الطورانية» التي قال بها الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال الشهير بمقولته إن «القرن القادم (الذي نحن فيه) سيكون القرن التركي»، وهي، أي الطورانية، نزعة توسعية قديمة كانت قد نشأت أواخر العشرينيات من القرن الماضي كردة فعل على «الأتاتوركية» التي قرأها الطورانيون كفعل تحجيم داخل مساحة جغرافية محددة تضاءلت حتى غدت خانقة للشعب الذي يعيش فيها، وفي ذلك الوقت، الذي أعقب تفكك الاتحاد السوفييتي، كان الهدف من ذلك اللبوس هو الجمهوريات الإسلامية التي استقلت عن هذا الأخير، والتي تقطنها أقليات من أصول تركية بنسب متفاوتة، ولربما كان أوزال يرى من خلال طرح فكرته تلك أنه سيستطيع إعادة تفعيل «المركز التركي» أميركياً على اعتبار أن واشنطن لا بد وأن تضع في حساباتها المستقبلية مشاريع من شأنها ضرب حصار «جيوسياسي» حول موسكو التي ستستفيق يوماً فتجد أن ضمانة أمنها، بل وبقاء كيانها، أمر مرهون بتحصين جوارها.

بعد أوزال جاء نجم الدين أربكان الذي دام حكمه أكثر قليلاً من عام ما بين 1996- 1997، حيث سيقول هذا بـ«الإسلامية» التي عنت عنده وجوب التوجه إلى الفضاءات العربية بالدرجة الأولى، وإلى فضاءات أخرى كانت تنضوي تحت راية الحكم العثماني البائد، وبالفعل استند أساساً إلى كون «الإسلام» يمثل الوعاء الذي يستمد منه الأتراك شريعتهم التي تحدد أدق تفاصيل حياتهم، وقيمهم المنغرسة فيهم بدرجة تلاصق الذات، وتمضي الفكرة لأن تلحظ أن «النهوض» التركي ما كان له أن يحدث لولا تمازج الهوية التركية مع الهوية الحضارية للإسلام.

عندما جاء حزب «العدالة والتنمية» للسلطة في أنقرة خريف عام 2002، كان يحمل «نظرية» جديدة باتت اليوم معروفة بـ«الأردوغانية» التي مثلت مزيجاً ما بين «الإسلامية» و«العثمانية»، وتوقيتها الذي جاءت فيه، بعد عام على أحداث أيلول 2001 بنيويورك، يحمل إشارة لا لبس فيها بأنها تطرح نفسها بديلاً لـ«الراديكالية الإسلامية» التي مثلها شارع إسلامي عريض كان لا يخفي «انتعاشه» بما قام به أسامة بن لادن، كان الطرح موجهاً أصلاً للولايات المتحدة حتى إذا كان وصول الرئيس باراك أوباما للسلطة في واشنطن مطلع عام 2009 كان الفعل قد اكتسب «مشروعيته» وزخمه، ومع هبوب رياح «الربيع العربي» بدا وكأن لا شيء يحول بين «الطرح» وبين جعله واقعاً في البلدان التي هبت عليها تلك الرياح.

انكسر المشروع الأردوغاني في تفعيل «المركز التركي» عبر محطة القاهرة 3 تموز 2013، والأسباب في ذلك كثيرة، لكن أبرزها هو أن الشارع العربي كان يبدي حالاً من النفور تجاه المشروع «الإخواني»، ثم جاءت حادثة اغتيال السفير الأميركي ببنغازي أيلول 2012 على أيدي «رجال المشروع» لتفرض على واشنطن إعادة حساباتها من جديد، وربما تبدى لأردوغان أن تداعيات انهيار مشروعه سوف ترتد على الداخل التركي فتسقط نظامه، وهذا تأكد له صبيحة 15 تموز 2015 المحطة التي قادته نحو موسكو في 9 آب من العام التالي.

يرمز الخيار التركي الراهن، المتمثل بالتلاقي مع دمشق، إلى محاولة لإعادة تفعيل «المركز التركي» بطبعته «الأردوغانية» لأن إعلان فشلها التام يقتضي حضور بدائل تماماً كما حدث مع أربكان، لكن أهم ما فيها، أي في تلك المحاولة، هو الوصول إلى قناعة مفادها أن «سمرقند»، التي ستنعقد فيها قمة «شنغهاي» منتصف شهر أيلول المقبل والتي راجت تقارير حولها تعرض لإمكان لقاء الرئيس بشار الأسد بنظيره التركي على هامشها، كان الجانب التركي قد سارع إلى نفيها، نقول إن سمرقند، أو سواها، باتت تمثل لأردوغان السبيل الوحيد للصلاة في الجامع الأموي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن