ثقافة وفن

الكلمة والمرحلة الزمنية والقداسة

| إسماعيل مروة

يقول واحدهم رأياً، تثور الدنيا دون سبب مقنع، تبدأ الاتهامات دون أن نناقشه، ونحن في ثقافتنا العربية وقعنا في مشكلات كبرى لا نعرفها ولا ندركها، فقد بقينا عمراً نردد شعار الممنوعات الثلاثة الجنس والدين والسياسة، وكل ما قدمناه في رحلتنا الشعرية والأدبية والروائية والنقدية، والذي نزعم أننا نحاول تجاوز هذه الممنوعات كان ضرباً من الخبل والحمق، وهذه الممنوعات تحصنت أكثر، وتكاثرت عن كل واحدة ممنوعات جديدة لم تكن ممنوعة، فلم يعد الجنس بشكله الوقح هو المرفوض وحده، بل صار كل ما يمت إلى الحب والعاطفة مرذولاً وصاحبه متهتكاً..

ولم يعد جوهر الدين هو المقصود بالصيانة والمنع من الاقتراب منه، بل تجاوز من الجوهر إلى الشخصيات والأتباع والأفكار وما شابه، ومهما كانت هذه الأفكار غير منطقية، ولم تعد الرموز السياسية هي المقصودة بالتبجيل والاحترام والخصوصية، وهذا حق في مختلف أنحاء العالم، ولكن تحولت القدسية السياسية والمنع إلى شخصيات صغيرة لا ناقة لها ولا جمل، ولكن الاقتراب منها صار من المحرمات!
حتى الآن الأمر يبدو ضمن إطار المعقول، والقابل للتغيير بين فترة وأخرى، وحسب الظروف السائدة والثقافة التي تهيمن على المشهد، إن كانت الإيديولوجيات تسمح باختلاف توجهاتها..

وبدل أن نتجاوز الممنوعات، وأن نبحث في جوهر المعرفة دخلنا في ممنوعات أخرى تتعلق بأدباء وشعراء، فهذا لدينا مقدس لأنه ينتمي إلينا، وذاك مباح لأنه لا ينتمي، بل الباحثون والدارسون صاروا إن درسوا أديباً، فإنهم يتناولونه بقداسة لا مثيل لها، ويحولون أخطاءه إلى محاسن، فمهما عطس أو تكلم هو فلان، وهو بنظر محبيه وأتباعه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

فمحبو محمود درويش يجدون له مسوغته في مواقفه السياسية، وهم في الوقت نفسه ينتقدون مواقف شخص آخر وشاعر آخر لم تصل مواقفه إلى معشار معشار درويش، فدرويش شاعر كبير وعظيم، ونزار قباني شاعر كبير ولا يشق له غبار، وأدونيس شاعر ومفكر من الطراز الفريد، ولكن بإمكاننا أن نتحدث عن أدبهم وفكرهم، وأن نعجب بجانب وألا نعجب بجانب، ولا يجوز أن يهب الناس كلهم لصلب ناقد وقف عند درويش أو سواه، وأن يبدؤوا بشتمه وشتم منجزه! فكما لا يجوز لشخص لا يتفق مع نزار ورؤيته أن يلغيه وأن ينال من مكانته، كذلك لا يجوز لمن يوافقه أن يلغي الآخرين إكراماً له..! فهذا اليمين يدافع عن شعرائه ويقدسهم، وهذا اليسار يدافع عن أدبائه ويرفعهم إلى مراتب عليا قد لا يستحقونها..!

المحرمات الثلاثة صارت مئات وألوفاً، علماً أن النقد الأدبي الحقيقي هو الذي ينعش الأدب وينقله من مرحلة إلى مرحلة، ولا ضير في أن يأتي ناقد – وهو على حق- ليقول لك: ليس الزمن اليوم زمن المتنبي ولا البحتري ولا الجواهري، ولا حتى نزار القريب منا..! وهذا الرأي لا يقلل من قيمة القامات.. وليس مخطئاً الناقد الكبير الراحل عبد العزيز حمودة عندما قال: إن جميع أدبائنا السياسيين الذين نحبهم ونجلهم، وضرب الأمثلة، لا يساوون شيئاً إذا ما ترجمت أعمالهم إلا إذا كان النقل إيديولوجياً، ويتابع لأن مشكلاتنا السياسية تختلف عن مشكلات العالم الآخر، فمشكلتنا في الكلمة واللقمة وغير ذلك، وهذا تجاوزه العالم المتحضر منذ زمن بعيد، وانطلق إلى المعقول واللامعقول..

وذلك في آفاق المعرفة والعوالم الفسيحة، ونحن ما نزال نسأل عن الشكل والمضمون مع أهميتهما! إن الأدب مهما كان عظيماً، يتحول مع الزمن إلى وثيقة تاريخية تعبر عن الزمن الذي قيلت فيه، ولا تصلح لكل زمان ومكان كما يظن المتعصبون وأنصاف الدارسين، فامرؤ القيس والمتنبي والجواهري ونزار ودرويش وسميح القاسم وجميع هؤلاء الشعراء يشكلون مرحلة متقدمة في أزمانهم، ومن حقنا أن ننظر إليهم على أنهم شواهد تاريخية، وليسوا أصناماً نقدسها ويصبح من لا يعجبه شيء، أو من يطرح رأياً في أي من هؤلاء الأموات والأحياء، يصبح مرتكباً لكبيرة وتجاوز المحرمات، وكأنه نال من الذات الإلهية، أو تناول الرموز السياسية، أو انتهك ما يتعلق بالجسد.

نعم أي أديب هو ابن بيئته وظروفه، وشاهد مرحلة، ووثيقة تاريخية سواء كان قد رحل أو على قيد الحياة، ولنعمل جميعاً على أن نقرأ بوعي لعلّ أدبنا يسمو ونقدنا يرتقي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن