ثمة تناقض كبير في أداء النظام التركي تجاه سورية، فأخبار الميدان في شمال شرق سورية تنسف، في الظاهر، جملة وتفصيلاً جميع تصريحات أركان النظام التركي الهادفة إلى التقرب من دمشق وإعادة العلاقات معها إلى سابق عهدها، وفي أضعف التحليلات فإن تصعيد أنقرة عسكرياً جبهات المواجهة مع الجيش العربي السوري، وميليشيات «قوات سورية الديمقراطية- قسد» تعكس تناقضاً تركياً، وتضع علامة استفهام في مدى جديتها فيما تعلن عنه سياسياً.
على ما يبدو فإن رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، ومن خلال محاولته إعادة ترتيب أوراقه في المنطقة، يصر على الإمساك بجميع خيوط الأزمات في المنطقة، ويحرص على إبقاء جميع الجسور بينه وبين العديد من الدول قائمة، من أجل الحفاظ على دور هنا أو هناك بما يضمن له بشكل أو آخر جملة من المصالح الشخصية، وهو ما يشكل نوعاً من الاستحالة بإمكانية الاستمرار في ذلك، أو نجاح ما يسعى إليه، لسبب بسيط وهو التناقض الكبير بين العديد من الدول اللاعبة في تلك الأزمات والمؤثرة في المنطقة، فمن غير المنطقي أن تتطابق رؤى وأهداف أنقرة وموسكو تجاه سورية وأوكرانيا، ويكون الأمر ذاته مع واشنطن، وقد تتقارب أنقرة وطهران بشأن تفصيل أو جزئية ما في سورية، ولا يكون الأمر ذاته مع موسكو.
من المؤكد أن إدراك رجب طيب أردوغان للمتغيرات الإقليمية والدولية المقبلة، وما يتعرض له من ضغوط داخلية سواء على المستوى الاقتصادي والسياسي، واقتراب الانتخابات في 2023، وكسب ود روسيا، دفع به إلى إطلاق جملة من التصريحات بما يخص إعادة العلاقات مع دمشق، من دون أن يتمكن على ما يبدو من التخلص من أطماعه العثمانية في دول المنطقة، فكانت النتائج عجزاً واضحاً في تجاوز موضوع العلاقات مع دمشق مستوى تصريحات المنابر.
يعتبر أردوغان أن بلاده كانت «دائماً جزءاً من الحل» في سورية، إلا أن حقيقة الأمر فإن تركيا جزء رئيس في الأزمة السورية، وكي يتمكن أردوغان من إعادة العلاقات مع دمشق، عليه أولا إدراك تلك الحقيقة، وأن يقف أمام مرآة الحقيقة لبرهة، ليعي أنه جزء من الأزمة، فهو يحتل أراضي سورية، ويدعم التنظيمات الإرهابية في إدلب، ويدرب مسلحيها على أراضيه، ويفتح لها أبواب بلاده للتحرك وإدخال السلاح وجميع أسباب الاستمرار، الأمر الذي أشار إليه موقع «ميدل إيست أون لاين» بشكل أو آخر بقوله: «لا بدّ من العودة إلى الوضوح، لا شيء أفضل من الوضوح. في سورية، يدفع رجب طيب أردوغان ثمن غياب الوضوح. الواقع أنه يدفع ثمن الاعتقاد أن تركيا دولة قادرة على لعب أدوار تفوق حجمها، لا يدري أن هناك ثمناً لكلّ شيء، بما في ذلك ثمن للتعاون مع إيران وثمن للتعاون مع روسيا في منطقة لا تزال فيها أميركا قادرة، إلى إشعار آخر، على لعب دور في غاية الأهمية على غير صعيد»!
مع جميع المعطيات، فإن الواقع أكد ويؤكد أن لا مصداقية أو موثوقية في تصريحات ووعود اردوغان، وما تم الاتفاق عليه في أستانا بين روسيا وإيران وتركيا في 4 أيار 2017، وما تلاه من اتفاقات في «سوتشي» الروسية، شاهد على عدم التزام النظام التركي بتعهداته كضامن للتنظيمات الإرهابية، فمع مرور سنوات على هذه التعهدات بما تسمى منطقة «خفض التصعيد»، فإن الأمور على حالها، ومازال النظام التركي يلعب على ورقة المتناقضات الدولية، ومسألة الوقت لتحقيق ما يهدف إليه، وما عودة تسخين جبهات الشمال السوري بالأمس إلا فصل جديد من محاولات أنقرة، للضغط على دمشق للقبول بالتفاوض من دون أفق أو رؤية مستقبلية واضحة، الأمر الذي ترفضه دمشق، لتؤكد على لسان وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد أن عودة العلاقات مع أنقرة بحاجة إلى استحقاقات يجب أن تقوم بها تركيا وأن تتم على أساس احترام سيادة الدول، لكي تعود العلاقات بين البلدين إلى ما كانت عليه قبل بدء الحرب الإرهابية على سورية، وإن هذه الاستحقاقات هي إنهاء الاحتلال ووقف دعم الإرهاب وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لسورية وحل مشكلات المياه بين البلدين، وهذا يشكل مقدمة لإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه، فهل تفعل أنقرة، أم ستخضع لضغوطات وتحذير واشنطن من الإقدام على ذاك التقارب؟!