قضايا وآراء

دوغين.. رجل يراه الغرب «متحكماً بمصير العالم»

| عبد المنعم علي عيسى

من دون أدنى شك كان المستهدف من العملية، التي أودت بحياة داريا دوغين في موسكو 20 آب الجاري، هو أباها الفيلسوف والمفكر ألكسندر دوغين الذي يراه الغرب شريكاً في صناعة خطوط السياسة الروسية جنباً إلى جنب الرئيس فلاديمير بوتين، بل وهناك في الغرب من يصفه بـ«عقل بوتين» الذي يرشده ويضع معه المسارات العريضة والسقوف التي يجب أن تعلو إليها، لكن مهما يكن من أمر، وسواء صحت تلك التوصيفات الغربية بحق الرجل أم كانت من النوع المبالغ فيه، فإن دوغين يبقى مفكراً استراتيجياً من طراز رفيع، ولا غرابة في أن يكون له دور بارز في تحديدات، ولو بـ«القلم الرصاص» لمعالم «روسياه المقدسة» كما يصفها بل ودوراً في تحديد الآليات الكفيلة بالوصول إلى تلك الصورة التي ارتسمها لنفسه ثم ذهب نحو تسويقها في الذات الجمعية الروسية، والفعل من حيث النتيجة كان قد أدى لإيقاظ شعور عميق في تلك الذات حتى تماهى الإثنان، الفكرة والذات، في قوام واحد أضحى راسماً ومحدداً، للنهوض المأمول.

قدم دوغين نظرية متكاملة عرفت بـ«الأوراسية» كانت قد ارتكزت على «السلافية» كعرق يمثل الحامل الاجتماعي لها، وعلى «الأرثوذكسية» كوعاء لازم لتفعيل الروح الجماعية للروس التي يجب أن تكون متمايزة عن الغرب «الكاثوليكي والبروتستانتي» ثم راحت تقدم قراءاتها للجغرافيا الروسية، التي تعني ضمناً مسألة الأمن القومي الروسي: أين يبدأ وأين ينتهي؟ وفي السياق راحت ترقب مراحل التاريخ الروسي، أين نهض وأين تعثر؟ ثم استطاعت، بعد أن جبت ذلك كله، أن تقدم رؤيا شاملة كان أخطر ما فيها، غربياً، أنها لا تعترف بالحدود التي تولدت بعيد تفكك البنيان السوفييتي عام 1991، وهذا قاده، فيما بعد، نحو حال من العداء مع الغرب صاحب «الليبرالية المتوحشة» و«القيم المهترئة» كما يحلو لدوغين توصيفه، ومن شبه المؤكد أن الغرب ارتأى تماثلاً حد التطابق ما بين نظرية دوغين الأوراسية، وما بين توجهات السياسة الروسية إبان حكم فلاديمير بوتين، الذي قال عنه دوغين في مقابلة مع قناة RT عام 2019: «بوصول فلاديمير بوتين إلى السلطة فروسيا تعود إلى التاريخ، وهو يعمل على تحويل أوراسيا من هدف للسياسة الخارجية إلى موضوع للسياسة الجديدة وصولاً إلى عالم متعدد الأقطاب»، والمؤكد هو أن دوغين كان واثقاً بأن «رجل الكرملين القوي» سوف يكون معنياً بلملمة الجراح الروسية التي تكاثفت في الجسد، على امتداد العقود الثلاثة الماضية، حتى باتت معيقة لطبيعة الحركة فيه، بدءاً من سقوط جدار برلين عام 1989 الذي قرأه على أنه مقدمة لتمددات قادمة للناتو لا محالة، فيما حدوثها مسألة وقت لا أكثر، ثم مروراً بانهيار «القلب الروسي» عام 1991 الذي تبعه انفراط العقد الذي كان قائماً ما بين هذا الأخير وبين الأطراف التي كان التصاقها فيه يمنحه عمقاً استراتيجياً من النوع اللازم والكافي لتثبيت ميزان القوى العالمي بوضعية تجعل من «روسياه» قطباً عالمياً راسخاً، ثم وصولاً إلى المرحلة «اليلتسينة» التي باتت فيها السفارة الأميركية بموسكو هي الراسم لتوجهات البلاد الكبرى، وفيها أضحى الجالس في «الكرملين» مجرد «حامل أختام» يصدق من خلالها على هذه الأخيرة، وفي غضون ذلك كله كان دوغين يرقب من بعيد انبلاج الفجر الذي لم يكن لديه أدنى شك أنه قادم لا محالة، بل واليقين يقول إنه قادم في غضون وقت قريب.

كان وصول فلاديمير بوتين، الرجل القادم من صلب جهاز الـKJB المؤسسة الوحيدة، ربما، التي أبدت تماسكاً يليق بتاريخها وأدائها، قد مثل للرجل لحظة انبلاج الفجر المأمول، ومع خطواته الأولى في جورجيا آب 2008 كان قد تأكد صحة «الرجاء» فيه، وحتى عندما تعرض الخط البياني الصاعد نحو الهدف لـ«عثرة» ناغورني كرباخ عام 2020 كان يرى أن لا ضير في مسار متعرج تفرضه ضرورات السياسة، حيث الفعل هنا خادماً للإستراتيجيا لا ضاراً بها، وعندما سمع توصيف «دولة مخترعة» الذي أطلقه بوتين يوم 21 شباط الماضي حين جاء على ذكر أوكرانيا في خطابه الشهير الذي ألقاه في هذا اليوم الأخير، كان قد أيقن أن «روسياه» هي التي عادت، وليس أميركا جو بايدن، هي التي فعلت كما قال هذا الأخير قبل نحو عام من هذا التاريخ الأخير، حتى إذا انطلقت «العملية الخاصة» بعد ثلاثة أيام على الخطاب سابق الذكر تأكد لدوغين أن «كل شيء يسير على ما يرام»، وهو لم يخف فرحه واحتفاله بالصرخة الروسية المدوية التي طالت أرجاء العالم من أقصاه إلى أقصاه.

في غضون تلك المرحلة كان دوغين قد أصبح في النقطة الوهمية التي تمثل المركز في «دائرة الهدف» التي يصوب عليها الغرب، وما يقوله، وهو قليل، كان أشبه بوسيلة أنجع لمعرفة المرامي البعيدة لما يجري على الأرض، وبمعنى أدق أضحت أحاديث الرجل مسباراً يمكن من خلاله الولوج إلى عمق صانع القرار السياسي في الكرملين، وهنا قد لا يكون مفاجئاً أن يجري استهدافه ليس كوسيلة لكسر المسبار، وإنما لأن هذا الأخير راح يعطي قراءات مخيفة وصداها راح يتردد في مديات واسعة ومؤثرة، حيث إن «كسره» بات لازماً على الرغم من كل الحاجة لوجوده في مرحلة فاصلة كتلك التي يمر بها العالم، فبات دوغين، بالنسبة للغرب، أشبه برجل يتحكم بمصير المعمورة برمتها وفق رؤية الغرب.

ألكسندر دوغين ليس شخصاً عادياً، ومحاولة اغتياله ليست حدثاً عابراً، وهي لن تمر مرور الكرام، والراجح هو أن نشر الاستخبارات الروسية لمعلومات حول تفاصيل العملية يوم الثلاثاء 23 من آب الجاري، والذي جاء فيه أن قتل داريا دوغين «خططت له ونفذته الأجهزة الأمنية الأوكرانية»، يعني أن «بنك الأهداف» الروسي سوف يتسع ويتسع، ليضم بين دفتيه أهدافاً جديدة قد تطول رأس هرم السلطة في كييف هذه المرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن