بعد خمسة أعوام من المعاناة بسبب ورم خبيث في الدماغ، توفي في دمشق في الحادي والعشرين من الشهر الماضي المفكر العربي السوري نبيل فياض.
تعرفت على المفكر نبيل فياض منذ نحو ثلاثين عاماً، إلا أن شخصيته لم تجتذبني، فلم أرافقه يوماً في سفر، ولم آكل أو أشرب معه، وكانت كل لقاءاتنا تجري إما في جريدة تشرين التي كان يتردد إليها وينشر فيها أحياناً، أو في أماكن عامة. إلا أن ما جرى عقب وفاة الرجل حز في نفسي وآلمني إلى حد كبير، إذ تجاهلت الجهات الحكومية نبأ رحيله، ربما لأنها تخشى القائمين على وزارة النقل أكثر من سلطة العقل وكل من يعقلون. أما منصات وصحف ومواقع من يسمون أنفسهم الـ«معارضة» السورية فقد تدرجت ردود فعلها بين الصمت البارد، والفتور السلبي، والشماتة الصريحة.
من المعروف أن تقاليد مجتمعنا تحثنا على ذكر محاسن موتانا، إلا أن بعض الـ«معارضين» أعلنوا شماتتهم بشكل صريح، فقد نشرت إحدى الصحف الإلكترونية مقالاً مؤسفاً نكتفي بإيراد عنوانه دون تعليق «وفاة نبيل فياض.. نهاية رجل كره حتى نفسه».
يقول الكاتب ألبير كامو: «كل عمل من أعمال التمرد يعبر عن الحنين إلى البراءة والنداء إلى جوهر الوجود». والحق أن للمتمردين فضلاً كبيراً على مجتمعاتهم. تصوروا كيف كان من الممكن أن يكون تاريخ المسيحية لولا ظهور المتمرد على صكوك الغفران مارتن لوثر مؤسس المذهب البروتستانتي. تصوروا أيضاً كيف كان من الممكن أن يكون مستقبل بريطانيا لولا تمرد كرومويل على ملكيتها الفاسدة. وكيف كان من الممكن أن يكون واقع السود في أميركا الآن لو لم ترفض الزنجية الخياطة العاملة روزا باركس التخلي عن مقعدها في الباص كي يجلس رجل أبيض محلها!
والحق والواجب يقضيان أن نعترف أن نبيل فياض كان كاتباً متمرداً فقد تجرأ على طرح الأسئلة المسكوت عنها والمضي إلى ما وراء تخوم المقدس، محاولاً أن يعزز قداسة الإنسان والحياة البشرية. لقد تجرأ نبيل فياض أن يدخل إلى مغارة مارد النبع وخرج مع الماء سالماً، ليثبت لنا أن التفكير الحر لا تكون نهايته الموت دائماً.
لست أعرف كيف كان سلوك نبيل فياض مع السلطة ورجالاتها وأدواتها، فهذا أمر لا يعنيني، لكنني أعلم أنه لم يرغم فكره على الانحناء لرجل السلطة، ولم ينحز لطائفة أو عشيرة بحثاً عن ملاذ آمن كما فعل بعض من كرسوا جل حياتهم للدفاع عن المادية والتاريخ ثم نكصوا إلى الكهوف التي عاش فيها أجدادهم وعبدوا آلهة التمر التي عبدوها!
صحيح أن الكبار عندما يخطئون تكون أخطاؤهم كبيرة، وقد أخطأ نبيل فياض في أشياء مهمة أذكر منها تشكيكه بتجذر إخوتنا المسيحيين في أرض الوطن، وقيامه بنعت شعبنا الليبي بصفات بشعة تنحدر لمستوى الشتيمة المقذعة! وهذا ما دفعني لأن أطالبه في هذا الركن بالذات بالاعتذار، لكنه عاملني باستخفاف مسيء سامحه الله.
نعم، لم يكن نبيل فياض منزهاً عن الخطأ، مثلنا جميعاً، لكن النزاهة تقتضي أن نعترف بجرأته وبأهمية منجزه الفكري المختلف. والأهم من ذلك كله، هو أن نبيل فياض لم يتاجر بالكلمة، ولم يحول نفسه إلى حصان طروادة لتهريب الفكر المسموم إلى عقول الشباب، كما لم يحول معاناة شعبه إلى شبكة لصيد المنافع ولم يمض آخر حياته وهو يشتري العقارات والأطيان خارج وطنه بالمال النجس الذي تقاضاه من أعداء شعبه. بل مات فوق تراب سورية فاستحق بذلك احترامي واحترام كل السوريين.