وقفت لحظة أفكر، عندما كنت أقرأ قصة (دون كيخوته) وطالعت الموقف الذي جمع طائفة من اللصوص من قطاع الطرق، بعد أن نهبوا ما نهبوه، ذات يوم جلسوا ليقتسموا، فحدث بينهم خلاف على طريقة التقسيم، وبدأت بينهم المعركة، فجاء رئيس العصابة يستفسر الأمر، فقالوا له: إننا نريد (العدل) في قسمة الغنائم، اللصوص يريدون العدل فيما بينهم!.. وهكذا نرى القيم الإنسانية العليا أمراً لا خلاف عليه بين الأبرياء وبين المجرمين على حد سواء.
ولو كان الأمر مقتصراً على فرد واحد، لوجد هذا الفرد من ضميره ما يهديه إلى الصواب، وحتى إذا خانته أرادته وارتكب الخطأ، فإنه عندئذ يعلم من وحي ضميره، أنه إنما فعل ما لم يكن يجوز له أن يفعله لو أتيحت له القدرة، ولكن الأمر يختلف بالنسبة إلى الجماعة من الناس، فها هنا إذا ما اعتدى المعتدون على القيم الإنسانية العليا فقد لا يتحرك الضمير بالقوة الكافية في هذا الفرد من عامة الناس، وعندئذ يتوب عنهم (الكاتب/ الأديب)، انه لم يتعرض لظلم أفدح من سواه، ولا لطغيان أكثر مما تعرض له الآخرون، لكنه بحكم تكوينه الذي جعله شاعراً أو أديب قصة أو مسرحية أو غير ذلك من صنوف الصياغة الأدبية، أقول إنه بحكم تكوينه ذلك يكون أعنف ثورة في ضميره فيعلن الرأي أو يصوغ حقيقة الموقف، إعلاناً وصياغة يخرجان ما كان مضمراً غائباً في نفوس الآخرين، أي ضمير الكاتب المتحرك لنفسه يتحرك نيابة عن سائر الناس، وهذه أمثلة لا حصر لها في دنيا الأدب والفكر توضح لنا كيف يتصدى الكاتب والأديب للخطأ الذي يمس إنسانية الإنسان ليصححه.
هذا هو (أبو العلاء المعري) في زمانه، يعاني ما يعانيه الجمهور كله من اضطراب السياسة وفساد الساسة، لكن الجمهور من طبيعته الصمت الذي لا يبين، والأديب بينهم هو وحده الذي ينطق بلسانه عما كانت تريد ألسنتهم أن تنطق به لو استطاعت، فيقول أبو العلاء المعري فيما أحسه الناس كلاماً كثيراً بالشعر مرة، وبالنثر الفني مرة أخرى، فيكون بذلك بمنزلة ضمير خاص لنفسه، وعام يشمل الناس أجمعين، فتراه يقول ما معناه: (إنك إذا قلت الحق اضطررت إلى أن تقوله مهموماً، وأما إذا نطقت لغواً وباطلاً أقاموا لك المنابر عالية)، وهو القائل:
إذا قلت المحال رفعت صوتي وإن قلت اليقين أطلت همي.