قضايا وآراء

ورحل غورباتشوف

| عبد المنعم علي عيسى

عندما وصل ميخائيل غورباتشوف إلى سدة السلطة في الكرملين العام 1985 كان يبدو أقرب إلى شخصية قيادية واعدة قادرة على استعادة الاستقرار للسلطة التي عانت اضطرابا واضحاً فيها بعد رحيل ليونيد بريجنيف، فمنذ قيام الاتحاد السوفييتي العام 1917 حتى رحيل هذا الأخير العام 1982 تناوب على السلطة خمسة رؤساء في غضون 65 عاماً، في حين تناوب عليها ما بين 1982 و1985 ثلاثة رؤساء في غضون فترة تزيد قليلاً على ثلاثة أعوام، صحيح أن الفعل كان يحدث بنتيجة مباغتة القدر للواصلين إلى السلطة في الفترة الآنفة الذكر، لكن الصحيح أيضاً أن ديناميكية السلطة التي اجترحها «البلاشفة» منذ وصولهم للسلطة كانت من الدقة حيث تأخذ بعين الاعتبار أبسط التفاصيل التي تحيط بالمرشح لمنصب «الأمين العام للحزب»، الذي إذا ما تحصل على منصب «رئيس مجلس السوفييت الأعلى» أضحى الممسك بدفة السفينة بشكل متين، ولا يعقل هنا ألا تكون الحالة الصحية للمرشح من بين تلك الاعتبارات التي يؤخذ بها أو يجري التوقف عندها، ففعل من هذا النوع أدى إلى ذلك التناوب المتسارع آنف الذكر، وهو بالتأكيد كان مؤشراً على اضطراب «ما» لا يعرف حجمه، ولا المدى الذي وصل إليه، وإذا ما كان الغياب قد جرى بفعل «غير قدري»، كما تشير تقارير، عندها يصبح مؤشر الاضطراب أكبر بما لا يقاس.

كان وصول غورباتشوف إلى السلطة يمثل، تبعاً للمسارات التي ذهب إليها الاتحاد السوفييتي خلال سني حكمه الست، كاشفاً لذلك الحجم ومحدداً لذلك المدى بدرجة لا لبس فيها، وإذا ما كانت النتائج قد جاءت بفعلين أولاهما موضوعي وثانيهما ذاتي، فإن الأخير يتحمل النصيب الأكبر في هذا الشق الأخير، والغريب في الأمر أن مرور ثلاثين عاماً على تفكك البلاد التي قادها لم يدفع به نحو مراجعة الحسابات ولا إلى مراجعة مكامن الخطأ في التجربة، بل على العكس فهو كان مقتنعاً حتى آخر أيامه بأن ما قام به كان فعلاً عظيماً نادراً ما يكرره التاريخ، ففي مقابلة أجرتها مجلة «فوريس» شهر تموز الماضـي ذكر الصحفي أليكسي فينديكتوف، المقرب من غورباتشوف، أن الأخير «مستاء» من الوضع الروسي الحالي، وأنه يشعر بأن «الجهود التي قام بها خلال حياته قد دمرت»، إذاً باختصار كان غورباتشوف يرى أن «روسياه» كانت في مسارها الصحيح في عهده، وهي اليوم في مسار «خاطئ».

أخذ نجم غورباتشوف بالصعود منذ أن تولى قسطنطين تشرنينكو السلطة في موسكو خلفاً لرجلها القوي يوري أندروبوف شباط من العام 1984، وفي تلك الفترة، التي كان يشغل فيها منصب العضو في المكتب السياسي للحزب، كان قد اختار منبر لندن للظهور بمظهر «القريب» و«المحبوب» من الغرب بعد أن سمع كلمات مارغريت تاتشر في تشييع هذا الأخير «بحق كل مقدس، هاتوا لي روسياً شاباً»، ومنها أعلن «الشاب» الذي جيء به إلى لندن أن «السلام السوفييتي- الغربي يجب أن يكون محور السياسات الراهنة واللاحقة»، وعلى الرغم من أن ذلك يمكن أن يفهم على قاعدة «التصريحات الديبلوماسية» التي يطلقها المسؤولون عادة في مثل حالات كهذه، إلا أن الرجل كان يعني ما يقول بأي أثمان يمكن لها أن تترتب على ذلك الفعل، والغريب هو أن فعلاً من هذا النوع، الذي كان يجب أن يفهم في دوائر صنع القرار الروسية بطريقة مختلفة عما يفهمها الشارع المستهدف من مثل تصريحات كهذه، لم يجعل من كفة غريغوري رومانوف، القومي الذي كان مرشحاً للوصول إلى منصب الأمين العام في مواجهة غورباتشوف، ترجح على كفة هذا الأخير الذي ظل معتداً بصفتيه «الأممي» و«المنادي بالسلام» حيث كان للصفة الأولى وقع أشبه بوقع رنين الذهب في آذان النساء.

طرح الرئيس الأميركي رونالد ريغان في العام 1983 «مبادرة الدفاع الإستراتيجي» التي عرفت آنذاك باسم «حرب النجوم»، والمبادرة كانت تضع الاتحاد السوفييتي أمام خيارين لا ثالث لهما، أولاهما قبول التحدي الذي يعني الدخول في سباق تسلح ذي تكاليف باهظة كانت التقديرات تشير إلى أنها سوف ترهق الاقتصاد السوفييتي المرهق أصلاً، أما ثانيهما فهو القبول بالهزيمة بكل ما يترتب على الفعل من تداعيات تفضي في سياقاتها إلى فقدان مركز القطب الثاني الذي كان يتشارك مع الولايات المتحدة «إدارة العالم».

كان الخيار الأول، أي قبول التحدي، صعباً وخصوصاً في ظل اضطراب السلطة الذي كان قائماً، لكن باستقرارها، المفترض، بعد وصول غورباتشوف كان ممكناً، والأخير كان أمام أحد خيارين إذا ما أراد سلوك طريق التحدي، أولاهما الضغط على القوى السياسية والاقتصادية بغية قولبتها، على الطريقة الستالينية، ووضعها في سياق خادم لذلك الخيار، وثانيهما الانفتاح على القوى والتيارات السياسية الداخلية التي كانت تبدي حالاً من الازدواجية ظاهرها مؤيد انطلاقاً من أن الفعل كفيل بحماية مكتسباته، وباطنها يبدي التململ من الوضع القائم ويرغب في التغيير، إلا أن غورباتشوف لم يسلك أياً من تلك الخيارات بل فضل الذهاب نحو التسليم بـ«أمر واقع» كان يراه حلاً سياسياً قد يمكنه من البقاء في السلطة، واللافت هو أنه خدع حتى من القوى الليبرالية، ذات الميول الغربية، التي اختار إطلاق عقالها دعماً لخياره ذاك، وهو اعترف في إحدى مقابلاته التي أجراها ما بعد خروجه من السلطة بأن بوريس يلتسين كان قد هدده وهو «سكران» قائلاً له بأنه هو، أي يلتسين، «من سيجلس على هذا الكرسي» الذي يقصد به كرسي الحكم في الكرملين، لكن الخديعة الكبرى جاءت من الغرب الذي لم يكن حصيفاً، فيطالبه، بضمانات تطول الأمن الروسي إبان توقيعه لمعاهدة العام 1987، عبر الربط بين القبول بتفكيك الصواريخ المتوسطة وبين تخلي الولايات المتحدة عن مشروع «حرب النجوم»، والمؤكد هو أن تلك المعاهدة، عبر افتقادها للربط آنف الذكر، كانت قد أدت إلى اختلال ميزان القوى العالمي، الذي قاد للمأزق الذي وجدت نفسها روسيا فيه فدفعها يوم 24 شباط 2022 إلى ما اندفعت إليه.

كان غورباتشوف رجلاً ضعيفاً، رخو الإرادة، وضعيف البصيرة السياسية، وقد كافأه الغرب على ذلك بأن منحه «جائزة نوبل للسلام» العام 1990، وعندما أعلن في موسكو عن رحيله نعاه قادة الغرب من أقصاه إلى أقصاه، في الوقت الذي أعلن فيه المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن بوتين لن يشارك في تشييعه فـ«جدول أعمال الرئيس لن يسمح له بأن يكون هنا».

مات غورباتشوف، وإرثه، يوم 24 شباط 2022، فيما مراسم الدفن تأخرت لبضعة أشهر، ورحيله غير مأسوف عليه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن