كثيراً ما كانت تعتمد الولايات المتحدة الأميركية في الوصول إلى أهدافها ومكاسبها الخارجية في أي بقعة من بقاع الأرض من خلال القوة، وفق معادلة شبه ثابتة، مفادها ترغيب الطرف الآخر وفي حال الرفض، ترهيبه عبر افتعال مشاكل داخلية في البلد المستهدف وتصنيع معارضة وصولاً إلى دخول واشنطن تحت ذريعة حماية الديمقراطية والحريات، والتاريخ يذكر أمثلة كثيرة من تشيلي والسلفادور إلى العراق وسورية، والكثير من الأمثلة، إلا أنه وفي المقابل لم تغب الطرق الدبلوماسية عن سياسة واشنطن الخارجية، ولم تصل القطيعة والتنسيق مع القوى العالمية الأخرى كروسيا والصين للبحث، خاصة في القضايا والأزمات الدولية، كما هو الحال الآن في عهد الرئيس جو بايدن.
لا يمكن إنكار حقيقة أن بايدن ورث جملة كبيرة من المشاكل من أسلافه، إلا أن طريقة تعاطيه مع ذاك الموروث، زاد من عزلة واشنطن، وجعلها أكثر انكفاء وابتعاداً عن الحوار مع الآخرين وخاصة الخصوم منهم، والهدف حسب اعتقاده الحفاظ على نفوذ بلاده العالمي، ويقول تقرير نشرته صحيفة «The American Conservative»، إن تصرفات بايدن على الساحة الدولية تشبه تصرفات مدمني الكحول، لا يمكنه الاكتفاء من تدخل الولايات المتحدة في الشؤون العالمية، على الرغم من أنه سحب القوات الأميركية من الفوضى الأفغانية التي لا نهاية لها، فقد جر الولايات المتحدة إلى صراع خطير بالوكالة مع روسيا.
يدرك المتابع لسياسة بايدن الخارجية، ارتكازها على مبدأ مناكفة كل من روسيا والصين، فعمل على تحريض نظام أوكرانيا ضد موسكو، فنتج عن ذلك حرب ورط فيها أوروبا برمتها، وأدخل بقية دول العالم بتداعياتها السلبية، وعلى المقلب الآخر تجاوز بايدن وساسته خطوط الصين الحمر تجاه تايوان، كما زرع حجر عثرة في طريق إتمام الاتفاق النووي الإيراني، وارتضى أن يكون محراك فتنة وتقسيم في سورية، لتعكس جميع تلك المؤشرات حالة التخبط، وافتقار بايدن إلى خطوط سياسية واضحة يسير عليها، الأمر الذي أكده أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد ستيفن والت، بمقال في «فورين بوليسي»، بعنوان «بايدن يحتاج إلى مهندسين معماريين، لا إلى ميكانيكيين، لإصلاح السياسة الخارجية للولايات المتحدة»، بمعنى أن بايدن بحاجة إلى أشخاص لديهم خيال ورؤية لإنشاء ترتيبات ومقاربات جديدة تتناسب على نحو أفضل مع تحديات اليوم.
في سورية رفعت الولايات المتحدة الأميركية من منسوب أعمالها العدوانية، وذلك بالتزامن مع جملة من التطورات، الإيجابية في ظاهرها أو في المبدأ، من إعلان النظام التركي عن نيته التقرب من دمشق، وجملة التفاهمات التي حصلت بين الأخيرة، وميليشيات «قوات سورية الديمقراطية-قسد» بما يخص التنسيق الميداني في مواجهة أي عدوان تركي شمالا، كل ذلك دفع بإدارة بايدن إلى الالتفات مجدداً إلى سورية، ليس لناحية إيجابية بل لعرقلة أي حل ممكن قد يلوح في الأفق، فعملت على إعادة الحوار بين ما تسمى «القوى» و«الأحزاب» الكردية، وإيجاد نقطة التقاء مع النظام التركي، لقطع الطريق على تواصلها مع الحكومة السورية عقب دخول الجانب الروسي على خط تقريب المسافات بين ميليشيات «قسد» ودمشق، وبين دمشق وأنقرة.
إدراك الإدارة الأميركية بانفلات عقال الأمور في الساحة السورية من يديها، واستثمار المتغيرات الإيجابية من قبل خصومها، دفع بها إلى عدم الاكتفاء بجزئية المحاولة لتعزيز التقارب مع ميليشياتها في شمال شرق سورية، بل تحركت في أرض الميدان وأنشأت قواتها المحتلة هناك قاعدة ثالثة غير شرعية في قرية نقارة بمدينة القامشلي شمال الحسكة، لإفشال الحل السياسي وفقاً للرؤية الثلاثية «موسكو طهران أنقرة» للدول التي تنتظر قرار دمشق كي تتحول إلى رؤية رباعية، ولقطع الطريق على أي احتمال لانتشار الجيش العربي السوري على الحدود، حال التوصل إلى تفاهمات أمنية سورية- تركية وتمكين الجيش العربي السوري من السيطرة على المناطق الحدودية، مقابل ضمان إبعاد الميليشيات عن تلك الحدود بمسافة تزيل «هاجس» النظام التركي من وجود «قسد».
لا يمكن بأي حال من الأحوال التقليل أو إنكار قوة الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن الرهان مطولا على فرط القوة الأميركية، ليس بالمنطقي فثمة عوامل وقوى كثيرة تلعب أدواراً مقابلة لتلك القوة، خاصة مع تضعضع الوضع الاقتصادي الداخلي الأميركي، وفي النهاية فإن نتائجها ستظهر على أرض الواقع بطريقة أو أخرى، فالقرار بالتوصل إلى حل قد اتخذ من قبل الدول المعنية في الملف السوري، وربما ما بعد 12 الشهر الجاري، حيث من المتوقع اجتماع قطاع من «المعارضة» السورية سيحمل الكثير من المتغيرات، خاصة مع توافق دول «ضامنة استانا» على ضرورة خروج قوات الاحتلال الأميركي من الشمال السوري، كمقدمة لخروجها من كامل سورية والمنطقة، ليبقى السؤال إلى متى سوف تستطيع أشرعة بايدن مقاومة رياح الحل في سورية؟