ثقافة وفن

محاولة إضافية لتوثيق الذاكرة التشكيلية … هل دفعت الحاجة فنانين كبار للتضحية بأعمالهم وبيعها بأرخص الأسعار؟ .. لوحة حطين من ملك شخصي إلى عرض في أرفع الأماكن

| سعد القاسم

يجري الحديث بين حين وآخر عن أنه قد كتب ما يكفي عن المراحل السابقة في تاريخ الفن التشكيلي السوري، وصار لزاماً الكتابة عن تجاربه المعاصرة، وحاله الراهن، رغم انعدام التعارض بين هذه وتلك. ذلك أن مراحل الفن التشكيلي السوري متكاملة ومتتابعة، وأحياناً متداخلة. وإذا وضعنا جانباً حقيقة أن الكتابة عن الفنون الأقدم في العالم لم تتوقف يوماً- رغم الكم الهائل من النصوص المتوافرة عنها- وذلك بحكم ظهور زوايا رؤية جديدة، وأحياناً معلومات جديدة عن أعمال قديمة وذائعة الشهرة. إذا وضعنا جانباً تلك الحقيقة، فإننا في واقع الحال لم ننجز بعد توثيق تاريخنا التشكيلي الحديث، وتنقيته من الأخطاء بتنوع أشكالها، بما في ذلك غياب تجارب عنه، أو سرد معلومات غير دقيقة، أو خاطئة كلياً.

التجارب وغياب المعلومات

هو الأمر الذي يطول حتى أكثر التجارب أهمية كما هو حال تجربة الفنان توفيق طارق رائد الفن التشكيلي السوري المعاصر، الذي تتناقض المعلومات حول سيرة حياته، وحتى عن موقعه الريادي. وقد يكون مفيداً في هذا المقام الإشارة إلى حكاية منشورة في صحيفة الكترونية عربية حول لوحة (معركة حطين) إذ تنسب هذه الصحيفة إلى د. غازي الخالدي (نقيب الفنون الجميلة الأسبق) قوله إن هذه اللوحة قد اختفت، «وتم العثور عليها بالصدفة في سبعينيات القرن الماضي، في دكان حلاق في حي السمانة، وحدّثهم الحلاق أن الفنان كان يحْلِق عنده بالدَّيْن، وتراكم عليه أجر سبع (حلْقات) فأعطاه هذه اللوحة، وبعد مساومة طويلة اشترت النقابة اللوحة بثلاثمئة ألف ليرة وتم نقلها إلى القصر الجمهوري، ولا تزال فيه إلى الآن، وهذه اللوحة كانت ناقصة أكملها الفنان زهير الصبان».

تعاقب الأجيال والحقيقة

الشيء الصحيح الوحيد في هذه الرواية المنسوبة لغازي الخالدي، والتي لم يشر إليها في أي من مؤلفاته، هي المعلومة الأخيرة حول إتمام الصبان لها، أما ما عداها فينفيه أبسط تحليل منطقي للحكاية ذاتها. فتوفيق طارق أقام في بيروت منذ أواخر العشرينات وحتى رحيله عام 1940، وبالتالي لا يمكن القبول بأنه أعطى لوحته، التي رحل وهو لم ينته منها بعد، لحلاق في حي السمانة بدمشق، والأمر الثاني هو أنه لا يمكن أن يتسع دكان حلاق في حي قديم للوحة يبلغ عرضها نحو ثلاثة أمتار، والأمر الثالث أن اللوحة اقتنيت من قبل وزارة الثقافة مطلع عام 1961 في حين أن نقابة الفنون الجميلة تأسست عام 1969. والأمر الرابع يتعلق بالمبلغ الذي دفعته النقابة – كما تورد المجلة – ثمناً للوحة، وهو رقم خيالي حيث إن القيمة المادية للوحات السورية في تلك الآونة، لم تكن لتتعدى بضع آلاف ليرة في أفضل الأحوال.

وقد أشرنا في حلقة سابقة إلى قيام د. عفيف البهنسي، بصفته مديراً للفنون الجميلة آنذاك، بشراء لوحة (معركة حطين) بمبلغ 3500 ليرة، من ابنة الفنان، وقد قدمت معها أربع لوحات صغيرة كهدية، دخلت جميعها في سجلات وزارة الثقافة. وهذا ما اكتشفه قريب للفنان جاء لسورية في التسعينات للمطالبة بها. وفي مطلع السبعينات أهدى وزير الثقافة اللوحة إلى الرئيس حافظ الأسد الذي أمر بأن تُعلق في القاعة التي يستقبل بها ضيوفه، فكانت موضع اهتمام واستفسار عدد من السياسيين والإعلاميين مما منحها شهرة واسعة.

ثقافة المجتمع الشفاهية

غير أن الحكاية المنسوبة لغازي الخالدي، على ما فيها من عيوب ونواقص، قد تكون الأقدر على الانتشار بحكم تناسبها مع ثقافة السرد الشفهي (الحكاياتي)، والذي لا يسلم الفن التشكيلي السوري منه حيث يردد تشكيليون، وقريبون من الوسط التشكيلي حكايات عن فنانين لا أساس لها، وتتناقض مع وقائع ثابتة، أو يمزجون بين موقف شخصي من فنان ما، وبين قيمة عمله فيبخسون الأخير حقه. ويفقدون رأيهم مصداقيته. ومثل هذا الأمر يبدو جلياً في التعليقات السطحية التي تردد دون وعي مقولات صارت شائعة لسبب ما.

حضور المرأة

ومثال آخر يتعلق هذه المرة بالحضور النسوي في الفن التشكيلي السوري منذ بدايات تنظيم المعرض السنوي، وهو حضور لا يتناسب مع ما نعرفه عن هؤلاء الفنانات، أو عن معظمهن. إذ نجد في المعرض الأول المقام عام 1950 اسم مسرة الإدلبي، ونجد اسم دلال حديدي في عدة معارض بدءاً من العام التالي، وعائدة عطار عام 1953 وإقبال قارصلي وإنعام عطار عام 1954، وماي سابا عام 1955، ولمياء باكير وهالة قوتلي ومنى أسطواني عام 1956 وكارمن ماهر وعائدة سلوم عام 1957، وعفاف مبارك وبهية شورى ودرية حماد عام 1959 وقد تكون أكثرهن حظاً إقبال قارصلي التي عمل ابنها الدكتور المسرحي محمد قارصلي على توثيق سيرتها. وقامت أيام الفن التشكيلي السوري بتكريم ذكراها في موسمها الثاني عام 2019، ثم اليانور الشطي، وهي فنانة أميركية جاءت إلى دمشق برفقة زوجها الدكتور ضياء الدين الشطي وشاركت في المعرض السنوي أعوام 1951و1953 و1954 و1955 ونالت الجائزة الثانية في معرض 1954 وقد نشرت لها ثلاث لوحات بالألوان المائية والغواش في دليل مختارات المتحف الوطني الذي أصدرته احتفالية (دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008) بالتعاون مع المديرية العامة للآثار والمتاحف إحداها عن جامع جديد طور البناء، وهو جامع الروضة غالباً، والثانية عن واجهة الجامع الأموي، والثالثة تصور دردشة بين ثلاثة مشايخ في الجامع. ولا نعرف أيضاً سوى ثلاث لوحات للفنانة منور موره لي، نشرت في الدليل ذاته، رغم أن الفنانة شاركت في المعرض السنوي سبع مرات بدءاً من عام 1951، وكانت عضواً في جمعية محبي الفنون الجميلة، كما يبدو من الصورة المنشورة هنا التي تعود لعام 1952 وتضم: جاك وردة – نصير شورى- ميشيل كرشة – ميشيل المير- محمود حماد. وجلوساً: ناظم جعفري- روبير ملكي- اليانور الشطي- منور موره لي- عدنان جباصيني.

وغياب المعلومات، وصور اللوحات الفنية، لا يقتصر على التشكيليات الأوائل وإنما يشمل التشكيليين أيضاً. كما هو حال أسماء أساتذة أمثال: شوقي جمال، الذي يذكر ناظم الجعفري في مذكرته أنه كانت له لوحات بالحبر الصيني والفحم معلقة على جدران مدرسته الابتدائية تدل على ذوق وذكاء. وعبد الحميد عبد ربه وبشارة السمرة وجورج خوري (خريج المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية في باريس). ومنيب النقشبندي هؤلاء الأساتذة تعلم على أيديهم فنانون رواد.

إن هذا الواقع هو بعض ما يبرر استمرار الحديث عن المرحلة الأولى في الفن التشكيلي السوري، حيث تقوم صفحات مختصة على الفيسبوك تمتلك مصداقية كبيرة، بفتح المجال أمام تصويب الخطأ واستدراك النقص في المعلومة. وهما أمران ما يزالان على درجة عالية من الضرورة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن