شكلت المواجهات الدامية التي افتعلها التيار الصدري يوم الـ29 من آب الماضي ذروة الخلافات السياسية التي يمرّ بها العراق، حيث ما زال العراق يشهد أزمة سياسية حادة منذ إجراء الانتخابات النيابية المبكرة في الـ10 من تشرين الأول 2021، التي لم تفض حتى تاريخه عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية ولا عن تكليف رئيس للوزراء لتشكيل حكومة جديدة.
ورغم كل الدعوات التي أطلقتها القوى السياسية العراقية، ودول إقليمية وغربية، ومجلس الأمن الدولي، إلى «الهدوء وضبط النفس»، وإلى «تعزيز الحوار الوطني بين القوى السياسية، لتجاوز الأزمة، والمضي في ترسيخ أمن العراق واستقراره»، التي أعقبت المواجهات الدامية داخل المنطقة الخضراء في الـ29 من آب الماضي، لم يتوقف التيار الصدري، عن توتير الأجواء السياسية عبر تغريدات وزير «القائد الصدر» صالح محمد العراقي، الذي وصف الإطار التنسيقي بـ«الوقح»، لدعوته «مجلسَ النوابِ وباقي المؤسسات الدستوريةِ للعودةِ إلى ممارسةِ مهامها الدستورية والقيام بواجبها تجاهَ المواطنين»، مصعداً من لغة سبابه من «الثالوث الإطاري المشؤوم»، إلى «ثالوث وقح لا يعرف معنى الإصلاح ولا الثورة ولا السلمية»، بحسب تغريدته في الـ31 من آب الماضي، قاصداً بذلك تيار الحكمة برئاسة عمار الحكيم، وائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي، و«كتلة صادقون» التابعة لعصائب أهل الحق.
في هذه الأجواء، عَقد قادة القوى السياسية العراقية في الـ5 من أيلول 2022، جلسة لاستكمال حوارات الجلسة الأولى التي عقدت قبل اندلاع القتال الدامي في المنطقة الخضراء، تلبية لدعوة رئيس مجلس الوزراء المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي، وبحضور الرئاسات الثلاث، وممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت، في محاولة لإنهاء الجمود السياسي الذي يعيشه العراق. واتفقوا في بيان لهم، على «دعم جهود التهدئة، ومنع التصعيد والعنف، وتبني الحوار الوطني، للتوصل إلى حلول، وضرورة استمرار جلسات الحوار الوطني»، وعلى «تشكيل فريق فني من مختلف القوى السياسية، بغية الوصول إلى انتخابات مبكرة، وتحقيق متطلباتها بمراجعة قانون الانتخابات، وإعادة النظر في المفوضية»، والتأكيد على «تفعيل المؤسسات، والاستحقاقات الدستورية»، وعلى «ضرورة تنقية الأجواء بين القوى الوطنية ومن ضمن ذلك منع كل أشكال التصعيد»، و«ضرورة تحقيق الإصلاح في بنية الدولة العراقية»، ودعوة «التيار الصدري مجدداً للمشاركة في الاجتماعات الفنية والسياسية، ومناقشة كل القضايا الخلافية، والتوصل إلى حلول لها».
التيار الصدري تغيب عن حضور الاجتماع، مثلما كان قد تغيب قبلاً عن حضور الاجتماع الأول في الـ17 من آب الماضي، وبمقاطعته جلستي الحوار الأولى والثانية التي دعا إليهما مصطفى الكاظمي، وضع نفسه في كفّة، وكلّ القوى الأخرى التي تريد التوصّل إلى تسوية للنزاع في كفّة أخرى.
وكما يبدو، فإن الصدر لا يدرك حتى الآن حجم خسارته السياسية، ولا الأخطاء التي ارتكبها، التي ابتدأت بإجبار نوابه الـ73 على تقديم استقالاتهم من المجلس النيابي، ما أفقده أهم ورقة سياسية للتأثير في مجريات العملية السياسية، وما تلا ذلك من اقتحام أنصاره للمجلس النيابي، ومن ثم محاصرتهم المحكمة الاتحادية، وآخرها الصدام المسلح مع القوات الأمنية المدافعة عن المقار الحكومية داخل المنطقة الخضراء، عقب احتلال أنصاره مبنى رئاسة مجلس الوزراء، ما أفقده ثقة الحلفاء والقوى السياسية الأخرى، لمواقفه المتغيرة والانفعالية، ولصعوبة التفاهم أو التواصل معه.
مقتدى الصدر يبالغ جداً في شروطه السياسية التعجيزية، التي لا يمكن الأخذ بها، فعلى سبيل المثال، اعتبر في تغريدة له في الـ27 من آب 2022، أن «هناك ما هو أهم من حلّ البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة»، وهو «عدم إشراك جميع الأحزاب والشخصيات التي اشتركت بالعملية السياسية منذ الاحتلال الأميركي عام 2003 وإلى يومنا هذا، بكل تفاصيلها من قيادات ووزراء وموظفين ودرجات خاصة تابعة للأحزاب، بما فيهم التيار الصدري»، وأنه إذا لم يتحقق ذلك خلال 72 ساعة، «فلا مجال للإصلاح»!
للأسف، مقتدى الصدر يتعمد إطلاق أنصاره في الشارع على غاربهم، متنصّلاً من مسؤولية ما يقومون به، لخلق الفوضى بالاحتجاجات، متخذاً من العنف وسيلة للتفاوض وفرض الشروط، غير مدرك، أن مشروعه لتغيير كامل السلطة، وفق تصوراته، غير قابل للتطبيق، وبأن المسار غير الدستوري للسيطرة على تركيبة الحكم في العراق لن يؤتي ثماره، فهناك لاعبون آخرون غير «الثالوث الإطاري المشؤوم» أو «الثالوث الوقح» بحسب تعبيرات وزيره.
المشهد السياسي العراقي، ما زال يكتنفه الغموض والانغلاق، رغم الهدوء السائد الآن، الذي يبدو أنه سينتهي مع نهاية شعائر زيارة أربعينية الأمام الحسين عليه السلام في الـ16 من أيلول الحالي، حيث تحرص كل القوى السياسية على عدم الإساءة إليها.
جمر الأزمة مازال مشتعلاً، والصدر لم يعتزل العمل السياسي نهائياً، كما سبق أن أعلن.