قضايا وآراء

من الفرقة الناجية إلى الوطن الناجي

| مازن جبور

مسألة الإيمان، من أكثر المسائل الشائكة والمعقدة في هذا الشرق، وأكثرها أهمية في الوقت ذاته، على اعتبارها محدداً رئيسياً لتحولاته، حروبه واستقراره، تقدمه وتخلفه، غناه وفقره، إلا أن تأثير الدين في الشرق الأوسط كوحدة جغرافية للدراسة، تختلف من دولة إلى دولة، بل من محافظة إلى محافظة ومن مدينة إلى مدينة وحتى من قرية إلى قرية، ومرد ذلك إلى كثرة التيارات الدينية المنتشرة في هذا الشرق.

يعد حديث الأمة الناجية المنقول عن الرسول محمد بن عبدالله (ص)، ونصه: «ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة»، من أكثر الأحاديث بلاغة وتعبيرا عن الفرقة في الشرق، خصوصاً أنه ترك الباب لكل فرقة وتيار ليعتبر نفسه الناجي الوحيد، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن التفسير الخاطئ له أو لنقل التفسير المحابي له، قاد كل فرقة إلى تكفير الأخرى، فبما أنها الناجي الوحيد، فالآخرون جميعاً على ضلال.

ونظراً لأننا لسنا هنا بصدد التفسير الديني، ونظراً لأن الدين جزء لا يتجزأ من السياسة في هذا الشرق، إلا أن الحيز الجغرافي المطروح في هذا المقال – الشرق الأوسط – حيز متعدد الملل والنحل، ومن هنا يمكن فهم الدرجة الكبرى لتأثير الدين في السياسة فيه، إذ إن السؤال عن سبب كثرة الملل والنحل في هذه الرقعة الجغرافية، قد نجد له جواباً في المقولة الشائعة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط «نحن شعوب مائية لا نتفق مع الأفكار الصحراوية»، وهي مقاولة تحاول أن ترد سبب الفرقة والتشظي والانقسام الديني في الشرق الأوسط إلى تأثير البيئة على الفكر الإنساني فيه.

كذلك تجد المقولة السابقة ما يدعمها في أن نشوء التيارات الفلسفية في الإسلام ترافق مع انتقاله من منطقة شبه الجزيرة العربية إلى المدن والحضارات المجاورة مثل سورية والعراق، ويمكن اعتبار أن أولى تلك التيارات كان مع واصل بن عطاء، مطلع القرن الثاني الهجري، أي في وقت مبكر من العهد الإسلامي، فواصل بن عطاء جاء إلى البصرة حينها للاندماج في فضائها الفكري والثقافي، وللاطلاع على أصحاب الملل والنحل ومعتقداتهم، فاطلع على أفكار يوحنا الدمشقي وغيره، وتأثر بالنمط الفكري للبيئة المائية، وهذا قد يكون أحد الأسباب الرئيسة لاعتزاله أستاذه الحسن البصري، والبدء بتدريس منهجه الفكري القائم على تقديم العقل على النقل في المسائل الدينية.

إذاً يمكن اعتبار المعتزلة أنموذجاً عن تيار ديني ساهمت البيئة وأثرها على الفكر في نشوئه، كما أنها قد ساهمت في نشوء تيارات دينية وعقائد وضعية أخرى، لاقت انتشاراً في هذا الشرق، إلا أن ما ينبغي التفكير به الآن هو السبيل إلى تخليص ملله ونحله من الارتهان إلى التفسيرات السلبية لحديث الأمة الناجية، والتي تنعكس واقعاً من الفرقة والتشرذم على الأرض، خصوصاً أنه ما عاذ لخاتم النبيين محمد (ص) أن يوقع أمته في شرَك ثنائية ادعاء الإيمان للمشابه في الملة ولصق تهمة الكفر بالمغاير، بل لا بد أن القصد كان حض الأمة على التقوى والإيمان والعمل الصالح، إلا أن التأويلات كانت سباقة في فعل فعلها بالأمة.

يمكن النظر إلى منهجية أنطون سعادة في الإيمان، كأحد حلول فك الارتهان إلى ثنائية «مؤمن – كافر» التي تعاني منها شعوب هذا الشرق، إذ اعتبر سعادة أن الدين ظاهرة روحية اجتماعية، وذلك في محاولة منه للتخفيف من الأثر الديني في نشوء النزاعات الداخلية وتحييده عن اعتباره سبباً للفرقة والتشرذم، فيقول في كتابه النظام الجديد: «ليس من سوري إلا وهو مسلم لرب العالمين: منا من أسلم لله بالإنجيل، ومنا من أسلم لله بالقرآن، ومنا من أسلم لله بالحكمة»، ويشير يوسف مروة في كتابه المعنون: «أضواء على الفكر العربي المعاصر: الفلسفة المدرحية»، إلى أن نظرة سعادة حول وحدانية الرسالات السماوية تتقاطع مع مفهوم الحسين بن منصور الحلاج، أحد كبار أئمة التصوف الإسلامي، إذ كان يرى أن «الأديان كلها لله، شغل بكل دين طائفة»، وهذا يتقاطع بشدة مع ما تسعى دمشق للتأكيد عليه عبر المؤسسة الدينية من أن الإسلام السوري هو إسلام وسطي معتدل منفتح على الجميع ويتعايش معهم، وذلك في ظل الحملة الشرسة للصق الإرهاب بالدين الإسلامي، وتقديمه للغرب على أنه خطر الإسلام على المسيحية.

على الرغم من أن نظرة سعادة إلى الدين قد تكون نابعة من غايات سياسية، وهدفها تمكين سعادة بصفته السياسي السوري القومي الاجتماعي من تجاوز واحدة من المشكلات التي تقف في وجه مشروعه السياسي «الأمة السورية»، في الإطار الجغرافي المحدد لتلك «الأمة»، التي تكثر فيها الملل والنحل، على الرغم مما سبق، إلا أنه يمكن اعتبار طرح سعادة كحل يشكل مخرجاً يحظى بالمقبولية، لتفكيك وحدة من أعقد قضايا هذا الشرق، وذلك بتحويل الفرقة الناجية إلى الوطن الناجي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن