قضايا وآراء

«سقط جسر لندن»

| عبدالمنعم علي عيسى

فيما بعد الإعلان عن وفاة «اليزابيت الكسندرا ماري»، وهذا هو الاسم الحقيقي للملكة اليزابيت الثانية، يوم الخميس الماضي 8 أيلول الجاري، تكشّف أن «الدولة العميقة» كانت قد وضعت خطة سرية قبل الوفاة التي كانت متوقعة، أطلق عليها اسم «جسر لندن»، وهي ترسم لملامح المرحلة التي ستعقب وفاة الملكة، كما تضع التفاصيل الدقيقة لتلك المرحلة بدءاً من الطريقة التي اختيرت لإعلان النبأ، ثم وصولاً إلى الآليات والحوامل المختارة لانتقاله بطريقة أريد منها تثبيت صورة أمام العالم تشير إلى «عراقة» منظومة الحكم البريطانية ومؤسساتها.

واقع الأمر يقول: إن الملكية عند الإنكليز تمثل جزءاً من مزاجهم العام، وهي منغرسة في ذاتهم الجماعية بطريقة هي أقرب لأن تكون خياراً لا حياد عنه، والشاهد هو أن هذا النظام لا يزال قائماً منذ عدة قرون، ولم يشهد انقطاعاً سوى لمدة لا تزيد على عشر سنوات عندما قام أوليفر كرومويل بالثورة على الملك تشارلز وإعدامه عام 1649 معلناً قيام الجمهورية، كان الفعل من حيث النتيجة يمثل قطيعة مع الملكية ومحاولة لاستحداث نظام مختلف عنها في التركيبة والهياكل والبنيان، وعلى الرغم من أن نظام أوليفر كرومويل كان قد استطاع تثبيت حكمه عبر انتزاع اعتراف أوروبي به، واستطاع أيضاً عبر سنوات حكمه القليلة كبح جماح التجارة الهولندية التي كانت تمثل المنافس الأكبر لنظيرتها الإنكليزية، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لدوام التجربة التي سقطت عام 1659 بعد تخلي ابنه تشارلز كرومويل عن الحكم لتعاود الملكية فرض نفسها عبر وصول الملك شارل الثالث إلى عرش انكلترا من جديد، والجدير ذكره هنا في هذا السياق هو أن الأخير قام بإخراج أوليفر كرومويل من قبره وشنق جثته عام 1661، وثم تعليق جمجمته على الحراب فوق قاعة «وستمنتسر»، في رمزية لا تخفى دلالتها التي أرادت القول إن رأس من أقام القطيعة مع النظام الملكي هو الذي قطع في النهاية.

قد تكون هناك العديد من العوامل التي دفعت باتجاه عودة الملكية بشخص شارل الثالث، لكن في خلفية الصورة يكمن القول: إن الفعل الذي قام به أوليفر كرومويل كان قد أوجد انحرافاً عن التقاليد المتأصلة في انكلترا، إذ لطالما كان لكل شعب، أو أمة، شخصية تتحكم بها معايير عدة تصوغ سلوكها ومزاجها العام وصولاً إلى صوغ أنظمتها التي تراها تحقق تلك المعايير، الأمر الذي يفسر عودة الملكية، المتأصلة جذورها في تجارب الأمة بشكل جارف، ويفسر أيضاً الطريقة التي حدثت بها تلك العودة.

من دون شك، تمثل وفاة الملكة اليزابيت طياً لمرحلة طويلة لعبت فيها الأخيرة دوراً مهماً، ودورها كان يتعدى في العديد من المراحل دور الشاهد على الأحداث على الرغم من أن نظام الحكم، الملكي الدستوري، يضع عصا السلطة بعيدة عنها، لكنها استطاعت خلق حالة من التناغم، ظلت محافظة عليها، ما بين قصر باكنغهام وبين «10 داوننغ ستريت» حيث تقع عصا السلطة، الأمر الذي يمكن تلمسه في استمرار الطريق الموصل بينهما دونما انقطاع على مدى يزيد على السبعة عقود، وبغض النظر عن الميول والخيارات التي كان يتبناها ساكن هذا الأخير، وتلك ميزة تحسب لها في سعيها لاستقرار العرش والبلاد، وخصوصاً أن الملكيات الأوروبية تنظر إلى العرش البريطاني واستقراره، كمنارة ودعامة لاستقرارها هي الأخرى.

كانت التفاصيل الدقيقة التي احتوتها الخطة، التي انطلقت برسالة أرسلها سكرتير الملكة الخاص اللورد ادوار يونغ لرئيس الوزراء ونصها «سقط جسر لندن»، تعبيراً عن تقليد يريد ترسيخ مفهوم الملكية التي تمثل «الوصفة الأنجع» لبريطانيا، وبأنها حجر الزاوية لـ«الديمقراطية» فيها، بل في أوروبا والعالم، وذاك أمر على غاية من الأهمية من بين الأسباب والموجبات، التي يراها «حماة العرش» ضرورية لاستمرار بقاء هذا الأخير بوصفه الضامن الأساس في استقرار البلاد، وبقاء رابطة «الكومنولث» التي نشأت رداً على خسارة بريطانيا لقطبيتها العالمية عشية النتائج التي قادت إليها حرب السويس خريف عام 1956، كمحاولة للإبقاء على الطابع الإمبراطوري الذي فقدته بشكل كبير بعيد هذا التاريخ الأخير، في حين ذهبت فرنسا في السياق نفسه إلى تأسيس «الفرنكفونية» التي كانت لها الأهداف نفسها في التجربة البريطانية الآنفة الذكر.

في نصف اللوحة الآخر، وهذا ما لا تورده وسائل الإعلام راهناً في رصدها للحدث، كانت الملكية البريطانية تتبنى على امتداد مراحلها شعاراً يقول: إن «الحرب هي السلام» وهو بالتأكيد شعار «ذرائعي» كان الهدف منه هو تغليف الجوهر الذي يحويه لب ذلك النظام، فتاريخ الملكية البريطانية يشير إلى أنها نظام يرمز لبقايا الاستبداد والاستعمار، وفي ظل عرشه كانت كثيراً ما تجري عمليات اضطهاد الشعوب ونهب خيراتها، صحيح أن العرش اليوم يكاد أقرب ما يكون إلى «نصب تذكاري» لتلك العمليات، لكن الصحيح أيضاً أنه لا يزال يمثل إرثاً، غير منقطع عند اليزابيت الثانية الراحلة، وأرشيفه يحمل الكثير الكثير مما يمكن تعداده هنا، لكن نحن يكفينا الإشارة إلى أن «وعد بلفور» في 2 تشرين الثاني 1917 كان قد أقر في ظل ومباركة، الملك جورج الخامس (1910 – 1936) الذي هو جد الراحلة، والذي قالت عنه الراحلة، التي نعاها الكثيرون من العرب على اختلاف مشاربهم، بأن ما قام به «عمل إنساني كبير يتماشى مع القيم التي يؤمن بها الشعب الإنكليزي»، وفي ظل عرشها جرى تدمير العراق في 1991 وفي 2003، ثم كانت آخر «الإنجارات» التي تحققت في ظلالها احتضان «الاتحاد العالمي للإخوان المسلمين» الذي صدر إلينا رياح «الربيع العربي»، التي لا نزال نعيش حتى اليوم تداعياتها، وما زالت «نسائمها» تعصف بكياناتنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن