في الوقت الذي تسارع فيه حكومة الاحتلال الإسرائيلي لاحتواء وتيرة المقاومة الشعبية المتنامية في الضفة الغربية ومدنها المتعددة وتلويحها باستخدام القوة بالتزامن مع استمرارها بتبني إجراءات وسياسات صهيونية تقليدية لم تتغير على مدى عقود من الزمن، بل ازدادت وحشية وقمعية سواء من حيث حملات الاعتقال أم تزايد واقع هدم المنازل واتساع رقعة الاستيطان تحت دوافع ومسميات متعددة بما فيها «مزارع الرعاة»، يبدو أن الواقع الميداني وتطور الأحداث التي تشهدها مدن الضفة الغاضبة بدأ يخرج عن إطار السيطرة والتأثير سواء من السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، أو من جيش الاحتلال الإسرائيلي وأجهزته الاستخباراتية، ولاسيما بعد ما شهدته مدن جنين ونابلس من عمليات فدائية متعاقبة من أبرزها تفجير عبوة ناسفة بدورية عسكرية للاحتلال في جنين وتوثيق العملية بعد إصابتها بشكل مباشر، ورمي زجاجات حارقة من شبان فلسطينيين على برج خاص لنوم الجنود الصهاينة، فضلاً عن إطلاق الرصاص على الجنود والمستوطنين على حد سواء، وهو ما يوحي بأن شكل المقاومة وطبيعتها وأدواتها المستخدمة تبلورت بصورة تؤكد حتمية تغيير واقع الضفة الغربية في حسابات الكيان الإسرائيلي، الذي راهن منذ عقود من الزمن على تبديل المزاج وانتماء الأجيال الجديدة من الفلسطينيين من خلال اتباع سياسة الترغيب والترهيب من جهة، ومن جهة أخرى فإن تغيير هذا الواقع من شأنه أن يزيد من عمق الهوة المتمثلة بتراجع ثقة المستوطنين بقدرات مؤسسات كيانهم المغتصب ولاسيما العسكرية والأمنية منها.
وما يؤكد حتمية دخول الضفة مرحلة جديدة من المواجهة والمقاومة ووصولها إلى مرحلة الغليان داخل فوهة البركان، وجود جملة من المؤشرات يتجلى أبرزها:
أولاً- إقرار مراكز الأبحاث وكبار المسؤولين السابقين ووسائل الإعلام العبرية، بتغيير الأوضاع في الضفة الغربية على وجه لا يتناسب مع مصالح الكيان الإسرائيلي وإستراتيجياته، كان من أبرزها ما وصفه موقع «واللا» في تقرير له عن «انتقال الضفة الغربية من إطار السيطرة إلى إطار المقاومة»، على حين حذرت صحيفة «يديعوت أحرانوت» من اندلاع انتفاضة مسلحة في الضفة الغربية يقودها شبان أقل من عشرين عاماً، كما توصل تقرير إسرائيلي أعده معهد أبحاث الأمن القومي، إلى أن تصاعد العمليات التي يقوم بها الفلسطينيون في الضفة تشكل أرضاً خصبة لتعاظم روح المقاومة الفلسطينية.
ثانياً- إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي عن عزمه على استخدام طائرات مسيرة من دون طيار في عملياته العسكرية والأمنية التي يلوح بالقيام بها في مدن الضفة الغربية، ما يؤكد على عدة حقائق: الأولى هي نية الكيان العودة لسياسة الاغتيالات في محاولته لقمع المقاومة، أما الحقيقة الثانية فتتمثل في اتساع فاتورة الخسائر التي لحقت بجيش الاحتلال مؤخراً نتيجة ضربات المقاومة في جنين ونابلس، على حين تكمن الحقيقة الثالثة حول تنامي الوجود الفدائي المسلح داخل الضفة الغربية.
ثالثاً- طلب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد ضرورة خفض التوتر في الضفة الغربية وفق ما سربته صحيفة «هآرتس» مؤخراً، التي أضافت أن السيسي قدم تحذيراً لحكومة الاحتلال الصهيوني من مواجهة جديدة مع حركة الجهاد الإسلامي، وهو ما يعني في حال صدقية هذه التسريبات أن نشاط الفصائل الفلسطينية توسع نحو باقي المناطق المحتلة ولم يعد يقتصر وجودها وفعلها المقاوم على قطاع غزة، وهذا النشاط قد يكون مباشراً أو غير مباشر عبر تدريب مجموعات شابة أو تقديم الدعم اللوجستي لهم.
رابعاً- الضغوط المختلفة عبر الوسائل المتعددة والممارسة من حكومة الاحتلال الإسرائيلية على السلطة الفلسطينية لقمع أي مظهر من مظاهر المقاومة في نابلس وجنين والخليل وغيرها من مدن الضفة الغربية، ومطالبة لابيد وكبار قياداته الأمنيين والعسكريين للسلطة بزيادة التنسيق الأمني معهم بعد الاجتماع الذي حصل بين لابيد وكبار قيادات كيانه لتقدير الوضع في الضفة ورفع وتيرة التأهب الأمني، فضلاً عن مطالبة تل أبيب الدوحة بممارسة الضغوط على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بهدف تعزيز نشاط الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية تحت التهديد بوقف المساعدات المالية، فضلاً عن المحاولات الأميركية- الإسرائيلية لإحباط المساعي الجزائرية الرامية لعقد مؤتمر المصالحة الوطنية بين حركتي فتح وحماس نهاية الشهر الحالي لإنهاء حالة الانقسام وإنجاز الوحدة الوطنية، بالتزامن مع دخول الجانب الأميركي على خطا الضغوط التي تمارس على السلطة خدمة للهدف الإسرائيلي وخاصة بعد تصريح رئيسة قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية المتضمن «قلق بلادها مما يحصل في الضفة الغربية».
خامساً- هناك شبه إجماع داخل الكيان الإسرائيلي من الجهات والفواعل الرسمية وغير الرسمية وعلى مستوى القيادات والأفراد والنخب المختلفة، بأن ما تشهده الضفة الغربية ومدنها سواء من حيث شكل العمليات الفدائية ومنفذيها والأدوات المستخدمة، ما هو إلا تأكيد على وجود ملامح انتفاضة جديدة، ولكن هذه الانتفاضة لا تتشابه مع الانتفاضتين السابقتين اللتين شهدتهما الأراضي المحتلة عامي 1987و 2000، وهذه الانتفاضة في حال نضوجها ستلحق بالكيان الإسرائيلي خسائر كبيرة قد تؤدي إلى حرب واسعة لأول مرة تتوحد بها جبهتا الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد تتطاير شرارتها إقليمياً.
بطبيعة الحال البركان الفلسطيني في أوج غليانه، وشرارة انفجاره قد تكون غزة وقد تكون الضفة وقد تكون القدس ومسجدها الأقصى، إذ تحضّر الحركات الصهيونية للاحتفال في ساحته بشكل مكثف وواسع نهاية أيلول الجاري احتفالاً بما تسميه «رأس السنة العبرية».