ثقافة وفن

الاكتواء بالنار والمتعة!

| إسماعيل مروة

في مراحل النهوض والاستقرار النوعي تكون المعايير صحيحة للغاية، فالكاتب كاتب والسياسي سياسي، والمثقف مثقف، والمشخص مشخص، ولا أحد يقترب من مكان لا يتقنه، لأن الأجواء الصافية النقية تعمل على توضيح الرؤية، وتفضح المتطفل، وتدفعه إلى معرفة ذاته وحدوده، وهذه القضية ليست سلبية أبداً، بل هي عين الإيجابية، فقد تدفع هذا الشخص المتواضع لبذل جهود مضاعفة، فيرتقي ليماثل الكبار في المكانة، ويستطيع أن يسلك مسلكهم وفي الوقت نفسه تعطي كل صاحب حق حقه، لذلك لم نجد نجيب الريحاني، ولا يوسف وهبي في مكانة غير الفن والإبداع، ولم يحاول نجيب محفوظ وهو كاتب السيناريو الأكثر مهارة، والروائي الذي طوبته الرواية يحاول أن يأخذ دوراً في أعماله أو أعمال سواه، ليأخذ شهرة أو مالاً، فهو الأكثر شهرة، وحتى أحمد مظهر وصلاح ذو الفقار، وقد كانا ضابطين من ضباط الثورة لم يركبا الموجة ولم يكونا ضابطين وأشياء أخرى، وإنما تنازلا طوعاً عن الحياة العسكرية لينخرطا في الفن والإبداع والشهرة، ويوسف السباعي الضابط أيضاً هجر عسكريته كرمى للأدب والثقافة وحازا امتيازات لا ينكرها أحد، وكان مدللاً عند السلطة السياسية، لكنه عُومل من النقاد والأدباء الأحرار معاملة أدبية كما لو أنه أديب مجرد من كل سلاح يمكن أن يستقوي به، فهوجم من النقاد، ومنهم طه حسين الذي كتب عن روايته «إني راحلة» و«نادية» كتابة نقدية قاسية لم تؤثر على الدكتور العميد، وبقي يوسف السباعي على احترامه وتقديره، وقدم السباعي مجموعة من الروايات الطويلة والمطولة، وفي أكثر من مجلد أحياناً، ولكن الاستقرار الثقافي لم يدفع أنصاف النقاد والمتملقين للحديث عنه كما لو أنه الروائي الأول.

ولم نجد من يقاربه من مكانة إحسان عبد القدوس، أو نجيب محفوظ أو حتى التقليدي محمد عبد الحليم عبد الله على ما بينهما من تشابه في الفن الروائي، وحين حاول بعض النقاد في الإعلام محاولاته في هذا الباب لم يفلحوا لوجود القامات النقدية التي لجمت طموحهم في التقرّب من السلطة والضباط، ولجمت طموح أصحاب المكانة في التربع على المكانة التي ليست لهم، وإبعاد أصحاب الباع الطويل، وكذلك في أوقات الاستقرار يخرج لنا الأدب الرفيع المتوازن، والنقد المتوازن، وتبرز شخصيات رأت أن مكانتها العليا في الكتابة، والنقد والإبداع، وقلّ أن نجد في مسيرة الاستقرار اسماً لأديب استنصب أو زاحم على منصب، وها هو نجيب محفوظ مثقف وموظف، والفنان الشاب فاروق حسني وزير ثقافة ولم نجد اعتراضاً أو هجوماً، وفي المقابل لم نجد استخفافاً من السلطة في كل أوقاتها بنجيب محفوظ أو توفيق الحكيم أو إحسان عبد القدوس أو يحيى حقي أو يوسف إدريس.

المثقفون الحقيقيون بقوا في ميادينهم، إبراهيم ناجي لطبه وشعره والعجيلي لطبه وأدبه، وهكذا، ولم تنتشر ظاهرة الأديب أو المثقف المستنصب الذي يسخر ثقافته للوصول إلى المنصب، فإن وصل تكن الأمور برأيه سليمة، وإن لم يصل فلا أمل بالثقافة والفكر!

في مراحل الاستقرار كل مبدع إلى إبداعه من صبري القباني إلى سامي القباني إلى نزار قباني، إلى كل القامات التي مرت على حياتنا الثقافية، ولم نكن نعثر على الانتهازيين من المبدعين الذين تتمثل غاياتهم في الوصول إلى السلطة، وما أدراك ما السلطة، وما تفعل مهما كان الإنسان متوازناً، بين تطبيق الأنظمة ومراعاة المصالح الخاصة ومراعاة مصالح القبيلة التي ينتمي إليها، مهما كان نوع هذه القبيلة!

عُرف عن كثير من المفكرين والمثقفين العالميين والعرب أنهم ابتعدوا عن التحزّب لأن التحزب يأسر آراءهم وأفكارهم ويسلبهم حريتهم التي يحتاجونها للإبداع، ومن باب أولى أن يكون الابتعاد عن الموقع والمنصب عند المبدعين أعلى، لأنه أكثر أسراً لحرية إبداعه وكلمته..

الحياة كلمة.. الكلمة موقف

والإنسان، مطلق إنسان، غايته في الحياة محددة، وهي أن يعيش مكرماً وسعيداً، وحاجاته مؤمنة بشكل طبيعي، من مأكل ومشرب وملبس، ومن حرية إبداع، وإن تحققت هذه القضايا المعيشية فماذا يضيره أن يكون في المنصب أي شخص كان؟!.

أما في الأوقات العصيبة والمتقلبة، فإن المقاييس تختلف وتختلّ، ويصبح كل إنسان يرى نفسه جديراً بالمنصب من أعلى المواقع إلى أدناها! ويصبح التنافس على أشده ليس من أجل الإبداع، كل واحد في موقعه، بل من أجل الموقع ومزاياه، وأخطر ما في الأمر ليس في الوصول إلى الموقع لأي كان، بل الخطورة بأننا إن وقع الاختيار على المبدعين خسرنا مبدعاً لصالح عمل إداري يقوم به أي شخص، وحين يصل مبدع إلى موقع مهما كان إبداعه فإنه يصل بروحه الأنانية التي يتسم بها الإبداع، وتبدأ عملية إقصاء مدروسة وممنهجة، ليس من الواقع، بل من خريطة الإبداع والعمل الخلاق، فتضيع الطاقات الإبداعية المهمة، ويتحول التنافس إلى سباق محموم على المكاسب والسيارات والامتيازات وليس على التجويد في العمل.

ويبدأ سباق محموم كالذي نراه في أرجاء وطننا على المواقع فيختلط الحابل بالنابل، ويصبح الشيخ رقيباً، والرقيب يصبح خطيباً، وتتماهى الحدود الدنيا في شروط الإبداع.

فليكن لدينا منهاج عمل، وفي مراكز إبداعية تحقق للمبدعين أجواءهم التي تفيدنا بأبحاثهم، وليكن المبدع رائداً حتى يثبت العكس، ولتكن قضايا الإدارة والمواقع في أيدي أشخاص إداريين أكاديميين ديناميين محببين لأنفسهم أولاً، لأن شرط المحبة للذات هو طريق الوصول إلى حب الآخرين.

رحم الله الزمخشري المعتزلي، وإن رفض بعضهم الترحم عليه، ورحم ابن عربي المتصوف، والزمخشري رأى أن السلطان نار إن اقتربت منه أحرقتك ناره، وإن ابتعدت شاقتك ناره، ووافقه الشيخ الأكبر ابن عربي.. نار تحرق المبدع وحريته، نار تحرق الرأي الذي يمكن أن يكون صلاح المجتمع له لا غير..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن