من دفتر الوطن

حياة بائسة أو موت مجاني

| حسن م. يوسف

وجهه لم يفارقني منذ صباح البارحة، وابتسامة طفله البريئة الجميلة تتساقط في قلبي كاوية كدموع شمعة تحترق. لم أعرف محمد برجس يوماً ولم يكن صديقي واقعياً ولا افتراضياً، لكنني بعد أن قرأت الكلمات الأليمة والموجعة التي كتبها المهندس بشار الحلبي عن صديقه محمد برجس ذهبت إلى صفحته على الفيس بوك واستعرضتها حتى تاريخ إنشائها، وها أنذا أشعر بحزن عميق كما لو أن محمد برجس كان صديقي منذ الطفولة. ولكي تفهموا حالتي دعوني أوجز لكم قصة هذا المهندس الشاب من خلال المعلومات التي وفرها لي صديقه بشار الحلبي ومن خلال ألسنة حاله على الفيس بوك.

المهندس محمد برجس وحيد والديه كان من أنبغ طلاب الهندسة الإنشائية. وعلى حد قول صديقه وزميله بشار الحلبي، كان يعتقد أن بلدنا بعد الحرب ستصبح جنة للهندسة المدنية وتخرج من الأوائل. بعد تخرجه كمهندس إنشائي في عام ٢٠١٤عمل في إحدى مؤسسات الدولة مدير مشروع، كما مارس مهنة التدريس، وقد استوقفتني الآراء الإيجابية التي كان ينشرها على صفحته في تلك المرحلة، فهو يخاطب زائر صفحته قائلاً: «ارتقِ بكلماتك ولا ترفع صوتك فالأمطار هي التي تنبت الزهور وليس الرعد!» وفي لسان حال آخر من المرحلة نفسها يقول: «حتى قضبان النوافذ في السجن تنقلب أوتار قيثارة لمن يعرف أن ينفث في الجماد حياة»، كما يقول في لسان حال آخر: «لم أحب أصحابي بقلبي ولا بعقلي، فمن الممكن أن يَسكن القلب… وأن ينسى العقل، أحببت أصحابي بروحي فهي لا تسكن… ولا تنسى».

لكن نبرة خطابه تغيرت إثر وفاة والدته بمرض عضال، ورغم ذلك لم تستكن قوة الحياة فيه، فتزوج في العام ٢٠١٩ وأنجب طفلاً كما القمر سماه علي. ومع قسوة الحرب وتفاقم الوضع في بلدنا بدأت أحواله المادية تتراجع، فتخلى عن التدخين والجلوس في المقاهي وعن السيارة، وقد انعكس هذا عبر ألسنة حاله على الفيس بوك، وإليكم بعض أقواله من الأقدم إلى الأحدث: «يبدو أن كل شيء ضدنا بما في ذلك نحن»… «لن أحزن على حاضر لا يكتمل.. فأنا أخاف من قادم لن يأتي.»… «ليت بالي لا يبالي»… «أن يموت الورد أهون من أن يعيش بلا عطر…». وفي واحد من ألسنة حاله خلال الشتاء الماضي يقول بالعامية ما مفاده: «العمى، أشعر أنني مثل البطريق، وتعال تكيف مع هذا الجو، أحسن شيء أن يدخل المرء في سبات لا فيقة منه».

في الثامن عشر من حزيران الماضي كتب محمد برجس على صفحته يعلن مرارته ووجعه بصوت عال: «لم أبالغ في أحلامي أبداً… ولكنني حلمت، وهذه بحد ذاتها خطيئة في بلدان الـ5 بـ1 والنص بخمسة ونص».

لم يكن الشاب محمد برجس مهندساً عادياً بشهادة كل من عرفوه، لكن نهايته كانت كأية قصة سورية محزنة، فقد أقنعه ابن عمه أن يغادر معه بقارب من طرابلس إلى إيطاليا. أخذ محمد برجس زوجته وطفله وركبوا البحر وتمكنوا من دخول المياه الإقليمية اليونانية، وقبل أن ينزلوا إلى البر قبض عليهم خفر السواحل اليوناني وصادروا منهم هواتفهم المحمولة وكل متعلقاتهم الشخصية، وقطروهم إلى المياه التركية وهناك «زتوهم بقوارب» وتركوهم، وبسبب ارتفاع الأمواج انقلب القارب الذي كان محمد برجس فيه وتوفي مع ابنه بعد ساعات من المقاومة.

يا للسوري ما أحزن قدره! حتى عندما يكون نابغاً، يفرض عليه أن يختار إما الحياة البائسة أو الموت المجاني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن