ثقافة وفن

بالشامي: «يبعتلك الهنا» يا هاني شاكر

| فراس القاضي

يبدو أن صاحب سؤال «أصاحب مين؟» قد وجد ضالته في دمشق، بعد أن اعترف بنفسه أنه لم يصادف جمهوراً كجمهور سورية، يحفظ كل أغنياته القديمة جداً والقديمة والجديدة.

ليس كذلك فقط، بل إن ما استغربه أكثر، هو أن الجمهور يصفّق ويصرخ مع أول علامة تعزفها الفرقة من اللازمة الموسيقية لأي أغنية ويصرخون باسمها، فيبتسم شاكر ملء وجهه وقلبه.

حين حضرتُ حفل يوم الجمعة، ورغم انبهاري بالمطرب الذي أحبه جداً، والذي لم يتغير صوته وطبقته منذ خمسين عاماً عندما انطلق بأغنية «حلوة يا دنيا» التي لحنها له العملاق الراحل محمد الموجي والذي اكتشف موهبته، إلا أنني كنت مشغولاً أكثر بمراقبة الجمهور الذي ضم الكثير من الخمسينيين والستينيين، نساء ورجالاً تمايلوا مع أغنيات شاكر، وخاصة القديمة منها، وتحديداً «كده برضه يا قمر» و«يا ريتك معايا»، بعضهم تمايل وصفّق بمنتهى الحرية والراحة، والبعض الآخر باستحياءٍ، ربما بسبب الشعر الأبيض الذي كسا رؤوسهم، أو مراعاة لابن أو حفيد قد يزعجه أو يفاجئه أن «تيتا» و«جدو» يفعلان ما ينهياننا عنه أحياناً، أو يفعلان مثلنا وهما في هذا العمر.

حالة النوستالجيا التي أدخل بها شاكر الجمهور كانت واضحة جداً: شرود مع ابتسامات، رفع الأيدي، التصفيق الحار، العيون المغمضة، أو التسمّر بلا أي حركة والاكتفاء بالسمع.

هاني شاكر الملقب بأمير الغناء العربي، ليس مطرباً عريقاً ومخضرماً فحسب، بل مطرب تقول شهادات كثيرة (منها شهادة الشاعر الغنائي المصري المعروف مجدي نجيب) أن ظهوره أربك العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وذلك لأنه لاقى تشجيعاً وتبنياً كبيراً من طاقم عبد الحليم من كتاب وملحنين، ولأن نمطه قريب جداً من نمط غنائه، رغم أن شاكر لم يترك حينها مناسبة إلا وقال فيها إن عبد الحليم قدوته، حتى أنهى عبد الحليم ذاته هذا الأمر، وحضر حفلاً لشاكر، وصعد إلى المسرح وغنى معه (كده برضه يا قمر).

وخلال مسيرة شاكر الفنية الطويلة، تعامل مع كبار الملحنين مثل (محمد الموجي وبليغ حمدي وكمال الطويل ومحمد عبد الوهاب «من غير ليه» ومحمد سلطان وخالد الأمير)، إلا أنه لم يبتعد أو يتعالى على التعامل مع الملحنين الشباب، فلحن له وليد سعد وعصام كاريكا وغيرهما، وهذا ينفي عنه تهمة محاربة الشباب التي أُلصقت به بعد منعه لمطربي «المهرجانات» من الغناء عندما كان نقيباً للموسيقيين في مصر.

ربما لا يعرف الكثير ممن حضروا حفلَي شاكر في دمشق هذه المعلومات، لكنهم يعرفون – وهذا يكفيهم- أن صوت وأغنيات هذا الرجل مرتبطة بأيام جميلة، بأيام كان الحب حباً، وكانوا هم عشاقاً يأسر قلوبهم «كاسيت» أغنيته الافتتاحية «يا ريتك معايا يا حبيبي»، أو يوم فارقوا فاستمعوا لليالٍ طويلة لـ «نسيانك صعب أكيد»، أو يوم ودّعوا مجبرين، فناموا على أغنية «اتمدت الايدين»، أو يوم صادفوا عيوناً ابتسمت لهم، فحفظوا أغنية «طول عمري استلطفك كان أملي أعرفك»، أو يوم ترجّوا حبيباً كاد يفارق، فأعادته أغنية «مشتريكي مَـ تبيعيش»، أو يوم وصفَ معجبٌ عيون صبية بـ«يا أم العيون حزينة تشبه سما الخريف» فنجحت الخطة وابتسمت له، أو يوم صادف عاشقٌ حبه الأول بعد سنين من الفراق، فقضى الليل يستمع إلى «معقول نتقابل تاني؟».

كل هذه الذكريات والمواقف، كانت حاضرة يومي الخميس والجمعة في أوبرا دمشق، لذا كان الحفل حميمياً جداً، والجو مفعم بقلوب وأرواح أعياها الشوق لما كان، وبهذا يكون هاني شاكر قد بَصَمَ على قلوبنا مرتين، مرة حين كنا أولئك العشاق، والمرة الثانية حين ذكّرنا بأننا كنا أولئك العشاق، أيام ما كانت همومنا الغاز والخبز والمازوت فقط.

كثيرة هي الصيغ العاطفية التي من الممكن أن تختتم بها مثل هذا المقال، لكنني شعرت أن أقربها وأصدقها، وربما أحبها إلى قلب شاكر أن وصلت إليه، هي أن نرد عليه بلهجة الشام التي احتفت به أيما احتفاء، وأن نقول لمن «هنّانا» لليلتين: «يبعتلك الهنا يا هاني شاكر».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن