عُرف عن الإخوان المسلمين طوال تاريخهم، ارتهانهم للخارج، بل إن مشروعهم اكتسب زخمه وسطوته من الحاجة الدولية في بدايات القرن العشرين إلى مواجهة النهضة العربية على المستويات كافة سواء ما تعلق منها بالاستقلال والتحرر، أو ما
تعلّق برسم الخطوط العريضة للهويتين الوطنية والقومية في الأقطار العربية.
حركة «حماس» طوال السنين الماضية وتحديداً منذ طعنها دمشق في الظهر، مارست الانتهازية السياسية ولعبة تبادل الأدوار بين جناحيها العسكري المقاوم، والسياسي الجامع للأموال، بانتظار تبلور الصورة النهائية للمنطقة في مخاض الربيع الأميركي، والذي تشكّل سورية أحد أهم ساحاته.
نشاطات الميليشيا العسكرية للحركة في مخيّم اليرموك، والتي تسمّى «أكناف بيت المقدس» وتحالفها مع «جبهة النصرة» كان واضحاً وأكدته دمشق بشكلٍ رسميّ منذ بدايات الحرب الكونية على سورية، وهذا يعني أن دمشق رمت الكرة في ملعب الطرف الآخر، ووضعته في مواجهة اتهامات مباشرة في المساهمة من الناحية العسكرية وليس فقط السياسية بما جرى في سورية.
منذ أيام صدر بيانٌ من حركة حماس، بيانٌ مفاجئ يعكس التحوّل في موقف الحركة من سورية من الناحية السياسية الرسمية، ويقدّم بشكلٍ غير مباشر، عن طريق تظهير الدعم لسورية قيادةً وشعباً، ما يشبه الاعتذار الضمني، حيث جاء فيه حرفياً «نرصد باهتمام استمرار العدوان الإسرائيلي على سورية، بالقصف والقتل والتدمير، وتصاعد محاولات النيل منها وتقسيمها وتجزئتها، وإبعادها عن دورها التاريخي الفاعل، ولا سيما على صعيد القضية الفلسطينية؛ فسورية احتضنت شعبنا الفلسطيني وفصائله المقاومة لعقود من الزمن، وهو ما يستوجب الوقوف معها في ظل ما تتعرض له من عدوانٍ غاشم»، معربةً عن تقديرها لـ«سورية قيادةً وشعباً، لدورها في الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ونتطلع أن تستعيد سورية دورها ومكانتها في الأمّتين العربية والإسلامية، وندعم كل الجهود المخلصة من أجل استقرار وسلامة سورية وازدهارها وتقدمها».
التحوّل في الموقف هو من أحد سمات الانتهازية السياسية، هنا التحوّل يتعلق بالانتقال من ضفة إلى أخرى بكلّ سلاسة، وإطلاق مواقف سياسية متناقضة حسب الحاجة ووفقاً للتطوّرات على الأرض، وبالتالي هنا لا ننفي الانتهازية عند الإخوان كما وردت في مقدمة المقال، لكن التحوّل الذي أشرنا إليه، وبعد صدور البيان الرسمي من حماس، بات أمراً واقعاً وقائماً هو الآخر، وهو ثمرة سلسلةٍ من التحركات الدبلوماسية التي تدشّـن بدورها محاولة كل الأطراف إعادة صياغة تحالفاتها، والحال هذا، فمن الطبيعي أن تلتحق الحركة المرتهن قرارها بالتغيّرات في مواقف رعاتها السياسيين والماليين والتنظيميين بالدرجة الأولى، أي قطر وتركيا، ولاحقاً إعادة تفعيل المبادرات التي تجري برعاية حزب الله وإيران في ما يخص العلاقة بين سورية وحركة حماس، وخاصةً أن موقف محور المقاومة من الحركة حافظ على تمايزه منذ القطيعة بين سورية والحركة، ولم يقطع شعرة معاوية معها.
وفي سياق رصد التحوّلات الآنفة الذكر بالتفصيل تجدر الإشارة إلى:
– أولاً، يأتي صدور بيان «حماس» بعد ساعاتٍ على نشر مقابلة أجرتها صحيفة «لوبوان» الفرنسية مع أمير قطر، حيث جاء في المقابلة، وردّاً على سؤال بشأن الانتقادات التي تواجهها دولة قطر عن العلاقة مع عصابة الإخوان المسلمين: «هذه العلاقة غير موجودة، وليس هناك أي أعضاء نشطاء من جماعة الإخوان المسلمين أو أيّ جماعاتٍ متصلة بها على الأراضي القطرية». هنا يلحظ الإنكار الرسمي، مع أنه في نظر البعض لا يقدّم ولا يؤخر، حيث لا يزال الموقف الإخواني والنخب الإخوانية تمارس دوراً مفصلياً في سياسات قطر كأداة، وحتى في التنظير لبعض توجهات سياستها الخارجية، إلا أن الإنكار الرسمي للحركة بات ضرورياً في سياق إعادة ترتيب أولويات التحالفات في المنطقة.
– ثانياً، التسريبات التركية عن التقارب مع سورية، وتغيير القيادة الإخوانية موقفها الرسمي العلني من القيادة السورية بشكلٍ واضح لا لبس فيه، على صعيد التصريحات العلنية، سواء الصادرة عن رئيس النظام التركي أو عن وزير خارجيته، فبتاريخ 16 أيلول 2022 الجاري نقلت وكالة «رويترز» عن صحيفة «حرييت» التركية الموالية لرئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان أن الأخير «أبدى رغبةً في لقاء الرئيس بشار الأسد لو أن الأخير حضر قمة أوزبكستان»، وكشفت الصحيفة أن «أردوغان أدلى بهذه التصريحات في اجتماع لحزبه الحاكم عُقد خلف أبواب مغلقة الإثنين. ونقلت عنه قوله: أتمنى لو كان الرئيس الأسد يحضر في أوزبكستان، لكنت تحدثت معه. لكنه لا يستطيع الحضور إلى هناك».
– ثالثاً، المصالحة القطرية السعودية، وما أفرزته من مرونةٍ مصرية تجاه قطر، دُشّنت بشكلٍ رسميّ بالزيارة التي قام بها قبل أيام الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي إلى قطر، وهذه الزيارة ما كان لها لتتم لولا تراجع الدعم القطري بشكلٍ محسوس لجماعة الإخوان في مصر، ومن المعروف أن تنظيم الإخوان هو تنظيمٌ دوليّ وأي تراجع يلم بفرعٍ من فروعه، يؤثر في الفروع الأخرى ويدفعها إلى إعادة حساباتها.
– رابعاً، الانخراط الروسي المباشر في دعم التوجه القائم لدى حزب الله وإيران في ما يخص الوساطة بين حركة حماس وسورية، والذي يندرج في سياق مختلف عن حسابات محور المقاومة، لكن يلتقي في نقطة فتح كل السبل الممكنة للتطبيع بين الدولة السورية والأطراف المناهضة لها، لتشتيت جهد المحور المعادي لسورية، وتفتيت وحدته، وزرع بذور التناقض ما أمكن بين أطرافه، بما يساهم في مراكمة خطوات خرق الجبهة المتماسكة المعادية لسورية، تمهيداً لإحداث التغيير المرجو في الموقف من الدولة السورية، وتحديداً في ملفات عودة سورية لممارسة دورها، والحفاظ على وحدتها، وكسر مفاعيل الحصار الاقتصادي المدمّر عليها. وفي سياق ما سبق أتت الزيارة التي قام بها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية إلى موسكو في الحادي عشر من الشهر الجاري، والأجواء الإيجابية التي أشاعها وفد حماس خلال وبعيد الزيارة.
إن الارتباط الإخواني وضمنه حركة حماس مع ما تمثله على الساحة الفلسطينية مع المحور المعادي للدولة السورية لم يعد ارتباطاً تمليه الظروف والتحوّلات، ولم يعد الرهان على نقل حماس إلى الضفة الأخرى، كالوضع الذي كان قائماً قبل عام 2011، أي في لحظة اندلاع الحرب الكونية على سورية، رهاناً تطالب به الأطراف الإقليمية الموالية للدولة السورية، لكن العمل يجري على تعديل الاصطفافات بما يتواءم مع التغيّرات في المشهدين الدولي والإقليمي، وخفوت الرهان على الإخوان كذراعٍ ضاربة لإعادة تشكيل المنطقة، والتخلي الإعلامي الرسمي التركي والقطري عن الإخوان، يدفع سياسياً القوى الأخرى في الإقليم إلى التحرّك لملئ الفراغ وتفعيل أوراق القوة والارتباط مع الأطراف التي تستشعر وجود هذه التحوّلات وخطرها عليها، وفي مقدّمها على ما يبدو حركة حماس.