يزخر تاريخ مجتمعاتنا في القرن العشرين بأسماء شخصيات أدبية نسائية يحق لنا أن نفخر بها الآخرين ونزهو… ومن هذه الشخصيات الأديبة الكبيرة سلمى الحفار الكزبري.
اجتمعت في شخصية سلمى الحفار الكزبري ظروف عديدة كانت عاملاً مهما في تنشئتها التنشئة الأدبية الخالصة، وفي رفد موهبتها الفذة وصقل شخصيتها صقلاً بديعاً يلائم أحوال المجتمع آنذاك.
الولادة والنشأة
فقد ولدت سلمى عام 1923، وكان أبوها هو الرجل الوطني الأديب المعروف لطفي الحفار، وقد نفي عام 1926 من سلطات الانتداب الفرنسي، فعاشت من خلال أبيها ومن خلال أخبار رفاقه المناضلين السياسيين في سورية ولبنان ومصر والعراق تاريخاً سياسياً حافلاً.
كان لطفي الحفار يستقبل وفود الزوار القادمين لزيارته من سورية ولبنان، وكان يدرب ابنته سلمى على قراءة القصائد الوطنية لكي تتلوها أمام هؤلاء الزوار لكي تستقبلهم استقبالاً حماسياً بديعاً، وكانت من بين تلك القصائد قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي:
سلام من صبا بردى أرقُّ
ودمعٌ لا يُكفكفُ يا دمشقُ
الكتّاب قبل المدرسة
عاشت الكزبري في أسرة محافظة، فقد رفض والدها أن يلحقها بالمدرسة، فوضعها في الكتَّاب لكي تتمكن من اللغة العربية ؛ فتعلمت قراءة القرآن الكريم والنّطق باللغة العربية الصحيحة.
بعد ذلك دخلت مدرسة (الراهبات الفرنسيسكان)، وأمضت فيها تسع سنوات، تعلمت خلالها اللغتين الإنكليزية والفرنسية، ثم بدأت تكتب ولما تتجاوز الثلاثة عشر عاماً.
وقد رفدت موهبتها الفذة مكتبةُ أبيها العامرة بكتب التراث العربي، فكان لهذه المكتبة فضل كبير في تنمية معارفها وثقافتها.
المقالة الأولى
كانت أول مقالة لها بعنوان: (كيف يجب أن نستفيد من الزمن) وكانت في هذه المقالة تتمرد على المجتمع، وتتساءل عن الأسباب التي تجعل النسوة يمضين أوقاتهن وحدهن بعيداً عن الرجال، في حين الرجال يلهون ويمرحون في المقاهي، وقد نشرت المقالة في مجلة ( الأحد) الدمشقية.
ثم كتبت كتاب (يوميات هالة) الذي صدر عام 1950، وهو كتاب يعكس شخصيتها تماماً، وقد اطلع عليه أصدقاء والدها وأعمامها، والشاعر العظيم ( بدوي الجبل)، وطلبوا منها المحافظة على الكلام نفسه وعدم تعديل أي جملة أو كلمة في الكتاب، لأن لغته عفوية، وهو ما يسمى السهل الممتنع.
غزارة في الأدب
ثم توالى نشاطها فكتبت في معظم الفنون الأدبية؛ بين القصة القصيرة والرواية والسيرة والشعر والمقالة والدراسة الأدبية والتحقيق.
لها عدة قصص قصيرة، منها (حرمان) و(زوايا)، و(الغريبة)، و(حزن الأشجار)… وكتبت عدة روايات، منها رواية (عينان من أشبيلية)، و(البرتقال المر)… ومن كتبها المشهورة في السيرة كتاب (نساء متفوقات)، و(عنبر ورماد).
وقد كتبت شعراً باللغة الفرنسية، فكان لها ثلاثة دواوين هي: ( الوردة الوحيدة)، و(نفحات الأمس)، وديوان ( بوح)، فضلاً عن مجموعة شعرية باللغة الإسبانية بعنوان (عشية الرحيل).
أسرتها
تزوجت عام 1941 من (محمد كرامي)، ورزقت منه طفلاً، لكنها ترملت بعد ولادته، وتأثرت كثيراً بهذه الفاجعة… ثم تزوجت مرة أخرى عام 1948 من الدكتور (نادر الكزبري) وأنجبت منه ابنتين، وكان زوحها أستاذاً في كلية الحقوق بجامعة دمشق وعضواً في مجلس شورى الدولة، ثم أصبح سفيراً لسورية في كل من الأرجنتين وتشيلي وإسبانيا، فكانت سلمى الكزبري ترتحل مع زوجها كثيراً فتجوبُ بلداناً كثيرة، وقد كان من ذلك أنها تعرفت إلى مشاهير الأدباء والشعراء، ثم تبادلت معهم الرسائل فيما بعد، وقد أقامت سلمى فترة في إسبانيا ؛ فكسبت هناك تعلُّمَها للغة الإسبانية، وكانت تقدم المحاضرات في مدريد وبرشلونة عن المرأة العربية في التاريخ.
ويذكر أن الكزبري قامت ـــ بالاشتراك مع الدكتور سهيل بديع ـــ بجمع رسائل جبران خليل جبران التي كتبها إلى مي زيادة ونشرتها تحت عنوان ( الشعلة الزرقاء)، و( رسائل مي زيادة إلى إعلام عصرها).
العمل الإنساني
وفي الجانب الإنساني يبدو أن الكزبري كانت تحمل في نفسها حناناً كبيراً طاغياً، ولعلَّه كان يقضُّ مضجعَها الأطفال اللقطاء الذين لا أهل معلومين لهم، وقد بلغ من حرصها على هؤلاء أن أسست جمعية ( مبرّة التعليم والمواساة) عام 1945، تلك الجمعية التي كانت تقوم بتربية الأطفال اللقطاء منذ ولادتهم وحتى بلوغهم السابعة من العمر.
هذا الدأب والهمة العالية قد خوَّلا الأديبة الكزبري إلى نيل عدة جوائز، فنالت وسام ( شريط السيدة) من إسبانيا سنة 1965، ونالت جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي سنة 1995، وفازت بجائزة البحر الأبيض المتوسط الأدبية من جامعة بالرمو في صقلية سنة 1980.
اجتمعت لدى الأديبة الكزبري موهبة فذة مع ظروف مواتية وكسب أدبي كبير فنمت موهبتها وظهرت عبقريتها.