التاريخ مضى.. المجد للمستقبل لم نجد عند الأمم الأخرى أي رفض للماضي لكننا لم نعثر على التقديس
| إسماعيل مروة
عجب أمين معلوف من شعب ما، أي شعب، يُمجّد تاريخه أكثر من مستقبله، وهذا كلام قديم وعميق، يدل دلالة قاطعة على أن الإنسان يعيش حاضره، ويرنو إلى مستقبله ويستذكر ماضيه، وليس هناك من ضرورة لأن يرد واحد على هذه المقولة، ولا أن يغضب واحد منا، وهو يرى، خطأ، أن هذا القول يقوم على رغبة في هدم الماضي أو النيل منه، فللماضي أهله وللحاضر ساكنوه، وللمستقبل من يسعى إليه ويخطط، ويضع البرامج العديدة التي لا تختلف مع الحياة التي نعيشها، ولا مع الماضي الذي نستذكره ونقرؤه، ولكنها تصطدم بشكل مباشر وقاس، مع أولئك المنسلخين عن الواقع الذين يعيشون الماضوية بكل تفاصيلها، فلا يرون الحياة إلا من خلال يسوع والحواريين والعذراء من المسيحية، أو من خلال الرسول والصحابة والإسلام في السيرة.
الماضي ركيزة لا حياة
بينما يجب اعتبار الماضي ركيزة نستند إليها، نقرؤها، نجلّها، نعتقد بها إن كانت من العقائد، ولكننا نحيا واقعاً مختلفاً عن ذاك الواقع، وندع الماضي وأشخاصه في مكان مهم من التبجيل والاحترام دون أن نسمح لأنفسنا أن نختار الحياة التي عاشوها، فقد انتهى زمانها، ولا أن نبحث لأنفسنا عن مسوغات، وعن سبل حياة من خلال الحياة التي عاشوها، لأنها بكل تأكيد ليست لنا، لا تناسبنا، ولا يجوز الوقوع في التناقض المطلق أن يجلس شخص عصري بكل ما فيه شكلاً وهيئة ولغة ليطلب من الناس أن يعودوا للحياة في عصر ماضوي انتهى ولم يعد بالإمكان وفق معطيات العصر العودة إلى الوراء، فهذا أمر مرفوض، ودعوة هؤلاء فاقدة لمسوغاتها، وهذا الدّاعي إلى الماضوية يحمل في نفسه أسباب الرفض، فشكله معاصر، ووسيلته معاصرة، واختياراته معاصرة، ويخاطب معاصرين، وفي الوقت ذاته يتوجه بنظرة إلى الرمم الماضية، داعياً الناس للعودة إليها وتقديسها..!
الأمم وماضيها
لم نستفد من الآخر الذي حدّد معاييره، إذ لم نجد في الأمم الأخرى المتحضرة أي رفض لماضيهم مهما كان هذا الماضي، فجلجامش بقي هو الباحث عن عشبة الخلود، وهوميروس وسقراط وأرسطو وأفلاطون، والإلياذة والأوديسة وأوفيد والتحولات والفردوسي وعمر الخيام.. جميعها علامات عند الأمم الأخرى تمتد لشكسبير وديكنز وهوغو وهمنغواي وإيميلي برونتي وغيرهم كثير، لكن هذه العلامات التاريخية لم تدفع تلك الحضارات إلى أن يقدسوا أرسطو وسقراط، وإنما بنوا على أسسهما، ولم يقدسوا أفلاطون، بل استفادوا من مدينته الفاضلة، ووضعوا هذه الشخصيات في مكانها الذي تستحق، وانطلقوا من الأفكار التي جاؤوا بها، فكانت فلسفة اليونان بكل تشعباتها منطلقاً للفلسفات في العصور القديمة والوسطى والمعاصرة، وجاءت النظريات الحديثة لتشكل امتداداً وتفسيراً وفهماً ومعارضة لتلك الآراء الأولى.. والطريف المؤلم أن نجد في ثقافتنا التي نحب من يقوم بتقديس أرسطو وسقراط وأفلاطون أكثر من أبناء تلك الحضارات، وبهذا لم يكتفِ العرب في ثقافتهم بتقديس ماضيهم حسب رأي أمين المعلوف، وإنما قاموا بتقديس ماضي الآخرين، وأسبغوا عليه قداسة كبيرة، وخطّؤوا أصحاب تلك الحضارات والفلسفات الذين خرجوا من فلسفات الأوائل!!
لا قداسة لرأي ولو مضى
حتى في أحلك الظروف استطاع المفكرون الأحرار، سلباً أو إيجاباً، أن يقفوا عند آراء قدمائهم، وأن يفندوها، وأن يقرؤوا ما فيها على وجه الحقيقة، فمدينة أفلاطون رأوها غير أخلاقية في مفاصل، ورأوها عنصرية في أماكن، ورأوها طبقية في مواضع، ووقفوا عند ريادتها ومصادرها في كثير من المواضع.. ومع الحضارة الحديثة استخلص باحثون أن ما يتم من اصطفاء وقتل للجنس البشري موجود في أصول الفلسفة اليونانية، وأن ما طرحته تلك الفلسفات لم يكن شيئاً عادياً، وخرجت دراسات كثيرة في هذا السياق، ولكننا نرفضها، ونعدّ أن هؤلاء الدارسين مغرضون يريدون تشويه صورة فلاسفة قد يصلون عند مثقفينا إلى مراحل الإلهام والنبوة والولاية!
الأمم التي تسعى للمستقبل لم تهمل تراثها وماضيها، بل كان نقطة ارتكاز بنوا عليها، ويخبرنا بذلك من وصل في دراساته إلى أن السلسلة مستمرة من أرسطو إلى داروين حتى اليوم، ولكنهم في الوقت نفسه أخذوا من هذه الحضارات التي انتموا إليها ما يناسبهم، وتركوا الأمور الأخرى لأنها لا تفيدهم في بناء يومهم ومستقبلهم.. ونحن أخذنا ماضيهم لنقدسه، وعدنا إلى ماضينا لنحياه، ويعشش في دواخلنا، ونعجز عن مغادرته ولا نريد أن نخرج منه!
كيف تحمل أوزاره؟
فماذا يعني لنا اليوم ما كان في حرب البسوس سوى العبرة؟! وماذا يهمنا من داحس والغبراء غير الدرس؟ وما قيمة كرم حاتم الطائي والإنسان يطوي على الجوع؟ وماذا يعنينا إن كان الحق مع فلان أو فلان من الذين نتحدث عنهم؟ وإن اتفقت الأمة، ولن تفعل، هل بالإمكان أن نأتي بصاحب الحق بعد هذه القرون لنعطيه حقه؟ وماذا يعنينا إن كان فلاناً داهية أم لم يكن؟ تلك أمة قد خلت، وتلك مرحلة انطوت، وبدل أن نتعلم منها كيف نتجنب الحروب تعلمنا كيف يمكن أن نشعل الحروب دون أن يكون لنا أي رأي؟
وبدل أن نتعلم كيف نبني الدولة والحضارة تعلمنا أن نهدم حضارتنا التي يجب أن تؤسس للغد القادم.. وعندما تطلب من الآخرين أن يحيوا الحاضر، فلا شك بأنك ستكون خصماً للماضي والعظماء والإرث التاريخي!!
شئنا أم أبينا الحياة تبدأ غداً، ولن نتقدم خطوة في مضمار الإنسانية، ولا أقول الحضارة، إلا إذا أدركنا أن الإرث كما الميراث لنبني به غدنا ونستثمره، لا لندفنه ونكتنزه، وندفن أنفسنا معه.
الاحترام للإرث والميراث، والمجد والتمجيد للمستقبل.
علينا أن نقف أمام صرخات المفكرين والأدباء والمتنورين وقفة حقيقية وذات مغزى وأبعاد، فليس كل من طلب مراجعة الماضي خائناً، وليس كل من قدّس الماضي يملك حسّ الانتماء!
قال القدماء: الماضي تراث، والحاضر سيتحول إلى تراث للقادمين بعدنا، وهذا يعني سيرورة الحياة، وضرورة فهم التطورات والتغيرات وفق معطيات كل عصر من العصور، ومنذ أمد بعيد والمفكرون ينادون بضرورة مراجعة الماضي، والمتمسكون بالماضي عن جهل، وحدهم، من رفض دعوات التنوير والمراجعة، وعدّوها نوعاً من المروق والكفر والزندقة!.
فحكموا على هذا بالكفر، وعلى الآخر بتهم عديدة ما أنزل الله بها من سلطان، وهم أعيانهم من يردد واعظاً «إن جاءكم فاسق بنبـأ» وبدل التبين عدّوا كل مجتهد فاسقاً، لذلك نجد اليوم من يتحدث عن غسل الإناء بالتراب، وعن أشياء لم يعد لها من وجود ضمن إمكانيات الحديثة!.
لابد من مراجعة فكرية لآلية تعاطينا مع الحاضر والماضي والمستقبل فلا حياة في الماضي، وإن نحن رغبنا فالذين عاشوا في الماضي لا يرغبون فينا، ولا يساعدوننا للعيش كما عاشوا، ولسبب جوهري، على أقل تقدير، لأنهم غير قادرين، غير موجودين، وعلينا ألا نخسر الغد والمستقبل، لأن للمستقبل أفراده الذين يخططون له، وهم لن يقبلوا وجودنا لسبب جوهري أيضاً، هو جهلنا، وأننا كالأموات لن نقدم فائدة، وقد نسهم في إعادة عجلة الحياة إلى الخلف!!