شجرة الأفغاني وعبده التي أثمرت للوطنية ثماراً طيبة عابرة للأجيال! … ملكة اللسان العربي هي التي حققت الانتشار للإسلام وليس الفتح وحده
| بقلم د. رفعت سيد أحمد- القاهرة
عبر المئتي عام الماضية في تاريخ الأمة العربية؛ كان لإسهامات الكبار من مفكرينا الدور الأبرز في تأسيس معنى وقيم (الوطنية) وأنها لا تتعارض مع أصول الدين بل هي تؤكدها وتزيدها عمقا ورسوخا، وأن الترهات التي أتت بها جماعات الإرهاب الإخواني والداعشي التي ابتليت بها الأمة في السنوات العشر الماضية.. والتي تنزع عن الإسلام اعترافه ودفاعه عن القيم (الوطنية) و(القومية) وتعتبرها كفراً وأن من يقتنع أو يدافع عنها.. كافر! لقد جاءت إسهامات مفكري السنوات المئتين الماضية لتؤكد على نقيض تلك الترهات الداعشية ويجعلون من (حب الوطن) والايمان بالوطنية.. ركيزة إسلامية أصيلة.. ومن أبرز هؤلاء يأتي العلامة والرمز السيد (جمال الدين الأفغاني) والإمام محمد عبده.. فماذا عنهما؟
أولا:إسهامات جمال الدين الأفغاني:
الإشكالية الوطنية
طرح جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897م) رؤيته لإشكالية (الوطنية) من خلال العديد من الآراء والاجتهادات الفكرية والتي وردت متفرقة في ثنايا أعماله (التي نشرت بتحقيق د. محمد عمارة عن دار الكتاب العربي _1968)إلا أن أبرز ما يعبر عنها في تقديرنا هو ذلك الحوار المركز الذي جرى بينه وبين السلطان عبد الحميد عما سماه بمفهوم «اللامركزية» بالنسبة إلى بلاد الخلافة العثمانية حيث هذه اللامركزية تعني بالنسبة إليه (الانتماء الوطني) الذي لا يتعارض مع الولاء لمؤسسة الخلافة الإسلامية في مقرها بالأستانة، وهو حوار بيَّن مدى النضج والوعي التاريخي الذي تمتع به الأفغاني قبل ما يزيد على مئة وخمسين عاماً مضت، وهو وعي، حسم، إلى حدٍ بعيد التناقض الحديث المصطنع بين الانتماءين: الإسلامي، والوطني، ترى ماذا دار في هذا الحوار، يقول الأفغاني:
– قلت للسلطان أتأذن في تقديم لائحة في تصوراتي لتحسن حالة المملكة والتحوط بصوبها من مطامع الأعداء؟
قال: بل قل لي ما تشاء أن تكتبه بكل حرية وصراحة، فأنا لك من السامعين.
قلت: أيعتقد جلالة السلطان أن مصر لو بقيت ولاية، ترسل إليها الولاة من الأستانة مثل باكير باشا، ومحمد باشا اليدكشي، وأمثالهما – لجمع الأموال من غير وجه، وتوزيعها على رجال الدولة هنا– «الأستانة»– فقط على ما هو مشهور وغير خاف على جلالتكم، هل هو خير لمصر وأهلها وللسلطنة؟ أم جعلها خديوية، كما هي قبل الإنجليز؟!
– فتفكر السلطان ملياً، وحوّل وجهه نحو النافذة عني، حتى ظننت أن الحديث قد ساءه، وأنه لا يحب الخوض فيه، ولا العودة إليه، وإذا هو بغتة قد التفت، وتوجه بكليته لي، وكأنه قد انتهى من ذكرى ما جرى من محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا، وكيف أنه كاد أن يستخلص السلطنة العثمانية فتحاً بالقوة. وقال: لو قلنا: إن وجودها خدوية أحسن من بقائها ولاية، ثم ماذا؟!
قلت: يا مولاي، إن السلطة العثمانية تتألف اليوم من ثلاثين ولاية، فتبدأ فنجعلها عشر خديويات:
فقلت: يا مولاي، وعزة الحق، وبولائي لأمير المؤمنين، ونصحي للمسلمين، أن ما ساقني إلى ما قلته إلا الإخلاص والحرص على ملكك، والغيرة على الدولة والممالك الإسلامية الشرقية، التي ليس لجمع شتاتها وتوحيد كلمتها إلا الاعتصام والانضواء تحت لواء الخلافة، وجلالتك ترى أن أجزاء السلطنة أخذت تتفكك، الجزء بعد الآخر، فصار من الواجب نظم الممالك وأجزائها، بسلك من النظام أوثق وأشد وأحكم. وما وجدت ذلك السلك إلا بذلك الشكل الذي قدمته.
ولما انتهيت.. هز السلطان رأسه، وتناول لفافة من التبغ، وأسرع في تدخينها – وقال: ماذا تركت، يا حضرة السيد للسلطان؟! وما أبقيت لتخت – (عرش وعاصمة) – الـعثمان؟
قلت: يبقى مولاي جلالة السلطان: ملك أولئك الملوك، وينضم إلى العرش العثماني عشرة عروش غير عرش مصر، ثم متى نهضت هذه المقاطعات والخديويات، وأخذت نصيبها من الرقي والعمران.. لاشك في أن إيران تسرع لمقام السلطنة العظمى للاتحاد معها، إذ هي في أمس الحاجة لشد الأزر، ولصون كيانها من مطامع الغرب، الموجهة عموماً نحو عموم دول الشرق، ثم ما أسرع الأفغاني للانتظام في ذلك السلك، سلك اجتماع كلمة دول الشرق الإسلامية تحت راية الخلافة العظمى والسلطنة الكبرى، ثم ومتى تم ذلك، هل يقعد أهل الهند عن نصرة الخليفة الأعظم واللحاق لشد ساعد إخوانهم ليدفعوا غارة الغرب عن الدول الإسلامية في الشرق، وعن هندهم أيضاً؟ أو ينهضون نهضة الرجل الواحد للتخلص من ربقة الاستعمار والمستعمرين ويرجع الشرق للشرقيين.
يرى د. محمد عمارة أن ذلك هو «مشروع اللامركزية» الذي سعى إليه الأفغاني، والذي عرضه على السلطان عبد الحميد، وهو الذي يزكي ما كتبه في (العروة الوثقى) عن أن «الدولة» الإسلامية هي اتحاد يشبه «الكومنولث» وليست رابطة مركزية تقهر ما في إطارها من تمايزات، وهو ما يعني في تقديرنا استقلالية في دوائر الانتماء، ودوائر الوطنية، وهي استقلالية وإيجابية وتكاملية، ولقد كتب الأفغاني في (العروة) عن هذا التصور «اللامركزي – التضامني» يقول: «لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصاً واحداً، فإن هذا ربما كان عسيراً، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه، يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه.
العلاقات التفاعلية
إن هذه الرؤية تركز على علاقات التفاعل، دون تجاهل لدوائر الصدام الطبيعي أو المصطنع منذ بداية القرن التاسع عشر، وكان جمال الدين الأفغاني أكثر إدراكاً لخطورة هذه المسألة مع نهاية الدولة العثمانية ومع نهاية القرن التاسع عشر حين استشعر أنها ستكون مثاراً للجدل وفرقة للمسلمين فنبه الخليفة العثماني إلى ضرورة أن تكون (العربية) هي لسان العرب والمسلمين تمهيداً لوحدة العروبة والإسلام، واستشهد الأفغاني بالتاريخ فكان يرى أن كل من دان بالإسلام أو رضي بدفع الجزية عند الفتح العربي قد سارع عن طيب خاطر وارتياح عظيم إلى التعريب» والسبب في ذلك أن وفود العرب (إلى البلاد المفتوحة) حملت معها أخلاقاً فاضلة ظهرت أفضليتها بأجلي المظاهر، مثل الأنفة من الكذب، والوفاء بالعهد، ومطلق العدل، وكمال الحرية، والمساواة الحقيقية بين الملك والسوقة، وإغاثة الملهوف، والكرم، والشجاعة، وباقي الفضائل، من الهيئات المتوسطة بين الخلال الناقصة.
اللسان العربي
ويرى الأفغاني أن انتشار اللسان العربي، فيما عدا بلادهم (شبه الجزيرة) ليس للفاتحين أدنى دخل فيه، ولا اتخذوا له أسباباً ووسائل، بل إن ما وجد في اللسان العربي من الآداب الباهرة والحكم والأمثال والمواعظ، ذلك هو الذي أحله من الانتشار هذا المحل.
ثم يؤكد الأفغاني رؤيته قائلاً: إن لكل دين لساناً، ولسان دين الإسلام العربية، ولكل لسان آداب، ومن هذه الآداب تحصل ملكة الأخلاق، وعلى حفظها تتكون العصبية، ولقد أهمل الأتراك أمراً عظيماً وحكمة نافعة – وهي قبول اللسان العربي لسان الدولة (المصدر: جمال الدين الأفغاني، العربية لسان الإسلام والمسلمين – مجلة الحوار – العدد الثاني – صيف 1986م، (فيينا)، ص: 162 – 163).
بل إن الأفغاني يتقدم خطوات واسعة في تأكيده مفهوم (الوطنية) عندما يعلن: «لا جامعة لقوم لا لسان لهم، ولا لسان لقوم لا آداب لهم، ولا عز لقوم لا تاريخ لهم، ولا تاريخ لقوم إذا لم يقم منهم أساطين تحمي وتحيي آثار رجال تاريخها فتعمل عملهم، وتنسج على منوالهم، وهذا كله يتوقف على تعليم وطني، تكون بدايته «الوطن»، ووسطه «الوطن» وغايته «الوطن»!.. فيجب أن يكون الوطن في مفهوم الشرقيين كقاعدة حسابية: اثنان، فاثنان يعملان: أربعة، فلا تستطيع المذاهب أو الطوائف أن تدعمها خاصة، ولا أن تحاول نقضها (المصدر السابق 168).
وفقاً لهذه الرؤية الأفغانية، فإن دوائر الوطنية والقومية والإسلامية قد تداخلت وتكاملت دون تعارض بشكل حضاري متسق كان له تأثيراته الواضحة على الكثيرين في جميع أنحاء العالم الإسلامي.
ثانياً: شجرة الإمام محمد عبده
1849 – 1905م) الوارفة:
كان الإمام محمد عبده من أخلص تلاميذ جمال الدين الأفغاني، وإن ظل يعبر عن الجانب الإصلاحي والتوفيقي في فكر الأفغاني، وصار امتداداً لهذا الجانب أكثر من غيره من الجوانب، ولقد انعكس هذا الأمر على رؤيته لإشكالية الوطنية، فنراه يوافق عليها في إطار الانتماء الإسلامي الأشمل، ولكنه يحذر منها في الوقت ذاته تحت دعوى احتمالات افتراس الدول الأوروبية لتلك الدول التي تنادي بالاستقلال عن مؤسسة الخلافة، ونجد هذا المعنى واضحاً عند إثارة الأفغاني لفكرة (الخلافة العربية) في شبه الجزيرة (نجد والقطيف واليمن) بمعزل عن السيطرة الكاملة للأتراك العثمانيين، هنا نجد محمد عبده يؤيد المشروع ويحذر منه في الوقت ذاته فيقول: (إن العرب في نجد أهل لهذا الاستقلال ولكن الترك لا يمكنونهم منه، وعندهم من القوة العسكرية المنظمة ما ليس عند العرب، فإذا شعروا بذلك أو رأوا بوادر قاتلوهم حتى إذا وهنت قوة الفريقين وثبت دول أوروبا الواقفة لهما بالمرصاد، فاستولوا على الفريقين أو على أضعفهما، وهذان الشعبان هما أقوى شعوب الإسلام فتكون العاقبة إضعاف الإسلام وقطع الطريق على حياته).
بيد أن هذه الوسطية المكبلة بالتحذيرات، التي ميزت فكر الإمام محمد عبده، لم تمنعه، من أن ينتقد وهو في سياق حديثه عن عدم تناقض مفهوم الوطنية مع الإسلام بل أن يكون عنيفاً في نقده لما يسمى «بالسلطة الدينية» والتي يحتج بها دائماً بشأن رفض مفهوم (الوطنية) الذي يقوم في بعض مكوناته على أساس مدني، وهو نقد يبرز أكثر رؤية محمد عبده الإيجابية للوطنية، فهو يرى هنا أنه «ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خولها اللـه لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم ليتناول بها من أدناهم، ولمن يقولون إن لم يكن الخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي أو للمفتي أو شيخ الإسلام؟ أقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية (د. محمد عمارة: الأعمال الكاملة للأستاذ الإمام محمد عبده، بيروت – المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1973م، جزء 3).
إن محمد عبده يزداد وضوحاً في موقفه من السلطة الدينية عندما يرى أن قلبها والإتيان عليها يعد أصلا من أصول الإسلام، وما أجلَّه من أصل قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، ولقد هدم الإسلام بناء تلك السلطة ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم (المصدر السابق ص:285).
إن توفيقية محمد عبده، بين الدين والدولة، والوطنية والإسلام، والعقل والوحي، تسببت في إنتاج مدرستين من تلاميذ الإمام، الأولى ويتصدرها رشيد رضا معبراً عن الإسلامية التقليدية، والثانية ويتصدرها قاسم أمين ومحمد حسين هيكل ولطفى السيد وغيرهم ممن لم ير في علمانيته ما يختلف مع إسلامية الإمام، وهكذا أصبح فكر محمد عبده مجالاً خصباً للجدل والتأثير في أجيال متتالية من المثقفين المصريين حتى يومنا هذا لأن شجرة العلم وفقه التجاوز التي غرس بذرتها الإمام محمد عبده… كانت راسخة وارفة عميقة وليست ككل الأشجار في بستان الوطن والإسلام.. لذلك لا تظل وستظل منتجة حتى يومنا هذا (2022) وما سيتلوه من السنين.