يركز المراقبون والمتابعون على مسألة أوكرانيا ودونباس كمادة للصراع الدامي في أوراسيا لكن الهدف الحقيقي أوسع بكثير، إنها ألمانيا، ولقد بدأت مراكز البحوث الأميركية تتعامل مع هذه الحقيقة التي يعرفها كل قارئ لتاريخ أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين.
كان المستشار الألماني ويلي براندت (1969- 1974) قد كتب في مذكراته أنه عندما كان محافظاً لبرلين الغربية زار واشنطن ليلتقي الثعلب الأميركي الشهير جون فوستر دالاس، والذي كان وزير خارجية الولايات المتحدة في عهد الرئيس دوايت أيزنهاور (1953-1961)، وكان دالاس مريضاً فزاره براندت في المستشفى وعرض عليه إمكانية توقيع اتفاق أميركي سوفييتي لإعادة توحيد شطري برلين، ما أن سمع دالاس هذا الاقتراح حتى غضب بشدة وتناول عكازه جانب السرير واضعاً هذا العكاز في صدر براندت بشدة وقال: «اسمع أيها الألماني نحن والسوفييت يمكن أن نختلف على كل شيء لكننا نتفق دائماً على أمر واحد هو أننا لن نسمح لألمانيا بالنهوض من جديد».
هذا الموقف تبناه هنري كيسنجر، وزير الخارجية في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون (1969 – 1974)، وكلهم جمهوريون.
شدد كيسنجر على ضرورة بقاء الحرب الباردة واستمرار الاتحاد السوفييتي لأن هذا الأمر يعطي لأميركا ذريعة قوية لاستمرار السيطرة على أوروبا.
انهار الاتحاد السوفييتي ولم تعد هناك أي ذريعة أيديولوجية لعزل ألمانيا عن روسيا، فألمانيا دون روسيا لا تستطيع البقاء بلداً متطوراً، ففي الحربين العالميتين كان هم الألمان الأول السيطرة على روسيا، لأن هناك مدخلات الصناعة الألمانية أي الطاقة، وهناك تحقيق مخرجات هذه الصناعة أي السوق، وتشير الإحصاءات إلى أن في موسكو فقط أربعة ملايين سيارة من إنتاج ألماني.
تخشى واشنطن من إعادة إحياء الترابط البنيوي الألماني الروسي والاعتماد المتبادل بين البلدين، بل إن شعلة الغضب الأميركي الأخير تجاه روسيا وألمانيا أوقدتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عندما ذهبت إلى موسكو قبل نهاية ولايتها بعام، وقامت بتوقيع اتفاق «السيل الشمالي ٢» مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين متحدية بذلك العقوبات الغربية ضد روسيا.
لم يعد لدى واشنطن سلاح الإيديولوجيا والحرب الباردة كي تمنع ألمانيا من التوجه شرقاً، حيث كان الجيوسياسي الإنكليزي هالفورد ماكيندر يقول إن روسيا هي قلب الأرض. فالاعتماد المتبادل بين موسكو وبرلين (وباريس أيضاً) أصبح حقيقة موضوعية تعاندها واشنطن، دون جدوى على ما يبدو.