ما ارتكبته بعض قيادات حماس خلال الحرب الفاشية- العدوانية على سورية هو خيانة، وطعنة في الظهر لن تُنسى، وخاصة أن الإخوانية فازت في مقاربة ما جرى في سورية على المقاومة وقضية فلسطين، ودخلت قيادات حمساوية، وأوساط إعلامية تابعة لها، في جوقة الحرب الإعلامية الشرسة على القيادة السورية، والجيش العربي السوري، والشعب السوري، متساوقة مع ما كانت تطرحه قطر وتركيا، وغيرها من الأنظمة، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، التي كانت وما زالت تحارب سورية من أجل عيون إسرائيل، وليس من أجل عيون فلسطين، وهذه الخطيئة، والخطأ الإستراتيجي الذي ارتكبته بعض قيادات حماس كان طعنة لفلسطين قبل سورية، لأن من يعرف تاريخ الصراع العربي الصهيوني يدرك أن سورية هي الرئة التي تنفست منها كل حركات المقاومة في المنطقة، وأن الحرب عليها هي حرب على فلسطين، ومحاولة لتدمير آخر قلاع وحواضن المقاومة.
لن أنبش في الماضي القريب، ولن أحاول نكْءَ الجراح العميقة التي تركتها تلك الممارسات الحمقاء لبعض القيادات الفلسطينية في حماس، والتي ثبت أنها خيارات قاصرة، وإيديولوجية إخوانية مذهبية أكثر منها مقاومِة، وملتزمة بقرار التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي تحالف مع واشنطن لإسقاط الأنظمة في المنطقة، سواء العميلة منها، أو الممانعة للسياسات الأميركية التوسعية، ولكن الهدف الحقيقي كان إسقاط الدولة السورية تمهيداً لضرب المقاومة في لبنان، وحصار إيران لاحقاً، وفي النهاية تصفية القضية الفلسطينية، وإنهاء قوى الدعم لها، وتأمين أمن إسرائيل لعقود قادمة، ومن لم يفهم هذه المعادلة يمكن له أن يعمل في أي شيء إلا تولي قيادة الشعب الفلسطيني، وقضيته العادلة.
على أي حال لا يمكن اتهام قيادات حماس كلها بما ارتكبه جزء منها، فالمعلومات تؤكد أن القيادات الميدانية والعسكرية في حماس كانت تعارض توجهات القيادة السياسية لأنها هي التي تعرف من أين يأتي السلاح، ومن يطور قدرات المقاومة العسكرية، فالسلاح لم يكن يأتي من الدوحة أو أنقرة، أو أي بلد عربي أو إسلامي، ونتحدى أن يقول أحد ما إن سكيناً للمقاومة في فلسطين قد أرسل من قبل أي من الحلفاء المزعومين في ما سُمي «ربيعاً عربياً»، والكل يعرف أن الرئيس بشار الأسد فتح مخازن الجيش السوري ليزود المقاومة بغزة بالصواريخ المضادة للدروع، على الرغم من مأساة موقف حماس آنذاك، وحيّا المقاومين جميعاً في معركة «سيف القدس» بمن فيهم مقاومو القسام في حماس، فالمبدأ لدى دمشق واحد لم يتغير: لا دعم لأي تنظيم مقاوم على أساس إيديولوجي، أو ديني، أو مذهبي، وإنما على أساس أنه «مقاومة» ضد العدو الصهيوني، فلا حزب اللـه يتلقى الدعم إلا لأنه مقاومة ضد العدو الإسرائيلي، ولا حماس تلقت الدعم إلا لذلك السبب، ولا الجهاد الإسلامي، أو الجبهة الشعبية- القيادة العامة أو الديمقراطية أو غيرها، إلا لأنهم جزء من محور مقاوم يمتد من اليمن إلى العراق إلى لبنان إلى سورية.
وقد تظهر بين الفينة والأخرى تباينات في بعض القضايا، والملفات تُحل بالحوار، ولكن لا يجوز أن نختلف على من هو العدو، ومن هو الصديق، ولا أن نختلف على المقاومة كهدف مركزي لنا جميعاً لمواجهة عدو لا يوفر أحداً من الاستهداف والقتل والتدمير، وقد آن الأوان لنفهم ذلك تماماً.
تساءل كثيرون لماذا لم يصدر أي رد فعل رسمي سوري على بيان حماس الأخير، والذي أُقر بالإجماع في اجتماع المكتب السياسي للحركة!
هنا لا بد من إيضاح بعض النقاط المهمة:
1- بذلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقيادة حزب اللـه ممثلة بأمينه العام حسن نصر اللـه جهوداً كبيرة، ومضنية خلال السنوات الماضية لإعادة المياه إلى مجاريها بين دمشق وحركة حماس، ويبدو أن هذه الجهود بدأت تؤتي ثمارها، أي إن الأجواء أصبحت أكثر إيجابية من الماضي، وقد يكون بيان حماس الأخير جزءاً من التمهيد المطلوب لذلك.
2- وفقاً لمعلومات من قيادات فلسطينية وازنة فإن هناك إقراراً داخلياً ضمن دوائر حماس بأن ما ارتكب بحق سورية قيادة وشعباً هو خطأ إستراتيجي كبير، لا بل خطيئة كبيرة بدليل نتائج هذا التوجه على قضية فلسطين، وانكشاف حملة التطبيع التي تقودها تلك الدول العربية مع كيان الاحتلال، وتحولات السياسة التركية التي أظهرت ضحالة وسطحية تلك القيادات التي انساقت وراء هؤلاء.
3- هناك قناعة لدى كثيرين أن الرئيس الأسد سوف يلاقي الجهود التي يبذلها حسن نصر اللـه في منتصف الطريق، على الرغم من عمق الجراح، وأن دمشق سوف تتجاوب بشكل إيجابي منطلقة من دروس الماضي المؤلمة، وحرصاً منها على وحدة محور المقاومة في وجه اتجاهات التطبيع على صعيد المنطقة، لأن أي مواجهة قادمة تحتاج لتوحيد الجهود لا تبديدها، تطلعاً للمستقبل، ويضاف إلى ذلك أن الرئيس الأسد قال بوضوح شديد لقناة «آر تي» الروسية في آخر حديث له: إن سورية لا تتعاطى بمنطق الانتقام والثأر.
4- تبقى مشكلة أساسية، وهي أن الرأي العام السوري والنُخب السورية لا تزال غير متقبلة لعودة حماس إلى دمشق، وتتحدث عن جسور الثقة، وعنما دُمر في وجدان الناس من قيم ومبادئ، وهذا الرأي العام بحاجة لمن يتحدث إليه بالمبررات التي أحاول هنا في مقالي تقديم بعضها، ولكن يجب أن يعرف الجميع أن أي عودة لحماس لن تكون كما كانت في الماضي، والحديث يجري عن مكتب تمثيل في دمشق للحركة، وعن حماس المقاومة، وليس حماس الإخوانية، فحماس الإخوانية قادت فلسطين إلى أحضان العثمانيين والدوحة، والإخوان المسلمون يثبتون في كل يوم أنهم حركة مشبوهة، وقابلة للبيع والشراء من واشنطن إلى لندن إلى برلين، وهو إشكال عميق لا دواء له حتى الآن.
إن مراجعة حماس لأخطائها القاتلة خلال السنوات الماضية هي مطلوبة للحركة قبل أن تكون مطلوبة من سورية، لأن من يخطئ البوصلة بين دمشق وأي مكان آخر في العالم بالنسبة لفلسطين هو أعمى البصر والبصيرة، ولا يمكن لك أن تكون مع فلسطين، وضد دمشق لأنك بذلك كمن يدمر ذاته وينتحر.
وعودة حماس إلى دمشق ممكنة وستحدث، ولكن حماس المقاومِة التي تضع كل إمكاناتها من أجل الشعب الفلسطيني، وحقوقه العادلة، ومن أجل مواجهة عدو غادر فاشي عنصري، وليس من أجل حسن البنا، أو سيد قطب، أو حركات الإخوان في بلدان عربية، أو تنظيم عالمي للإخوان، كان يُقاد من الدوحة التي هي حليف للولايات المتحدة من خارج الناتو، والتي تبرأ أميرها مؤخراً من الإخوان المسلمين نفاقاً ودجلاً، وكان قبله ولي العهد السعودي يعترف في حديثه لـ«الواشنطن بوست» أن تمويل الوهابية ونشرها كان بناءً على طلب واشنطن.
دعوا قضية فلسطين مركزية، وهي كذلك، وارموا خلفكم كل أدوات النفاق السياسي باسم الدين، فهذه الأدوات سقطت وانكشفت، ولسنا بحاجة في سورية لمن يهدينا، ولمن يعلمنا الإسلام، فالشام أبو الإسلام والمسيحية والقيم الأصيلة.
عودة حماس المقاومِة ممكنة، ولكن لوثة الإخوانية يجب أن تنتهي منها، لأنها سممت دم فلسطين والشام والمنطقة، ودمرت وجدان الناس ومبادئهم، وتنقية دمنا مما تركته مسرحية الربيع العربي من آثار كارثية تحتاج للزمن والوقت.
إن دمشق قلبها كبير على الرغم من كل السكاكين التي طعنته، لكن هذا القلب بقدر ما هو طيب، ومتسامح فهو قوي وشجاع، يسنده عقل كبير، فالقلب المتسامح دون عقل كبير لا فائدة منه، ومن هنا النظرة لعودة حماس، أي حماس المقاومِة حصراً، والتي ينظر إليها عقل سوري كبير وإستراتيجي، لا عقل ضربه العفن كما حدث مع بعض قيادات حماس.
التطلع للمستقبل هو الأساس، أما الماضي فلا فائدة منه سوى أخذ الدروس، ودمشق تعلمت الكثير من الدروس، وتتعامل من موقف الكبير المنتصر، ولو لم يتحقق ذلك لما طرق باب دمشق أحد، والآن، أبواب دمشق السبعة تطرق، لأنها انتصرت.