ثقافة وفن

وللفساد حياة وابتسام!

| إسماعيل مروة

ويحدثونك عن الفساد، وما أدراك ما الفساد؟! وما أدراك من يتحدث عنه في كل ميدان من الميادين؟! وأغرب ما في الفساد أنه قادر للغاية، ومقنع غاية الإقناع! وأول من يقنع بالفساد وآلياته وشخصياته ضحاياه! نعم ضحايا الفساد هم من يروجون له، ويدافعون عنه، ويشتمون الناس لأجله! وقد يعودون إلى بيوتهم ليشتموا الفساد، وفي طريقهم يشتمون المجتمع لأنه حاضن للفساد، ويعددون الفاسدين واحداُ واحداً، ولكن ضمن منظومة قيمية تسهم في حماية الفساد والفاسدين، وتصنع طبقة لزجة حول منظومة الفساد تمنع من اقتحامها بأي شكل كان، ويحاول هؤلاء التهجم على حماة الفساد، وعلى الساكتين عنه، وفي مقدمتهم الحكومة والدولة، وهم محقون في هذا الهجوم، ولكن ليس دفاعاً عن السلطة أقول: كم من فاسد عندما اختير لموقع هلل له محبوه، ولم يميزوا بين حبهم له، أو صداقتهم له، أو قرابتهم له، أو انتمائهم له عشائرياً، وبين أن يتولى أمور الناس في موضع ما يتيح له المزيد من الفساد، أو يفتح له طريق الفساد! والمضحك المبكي أن الذين هللوا لهذا هم أول من يتضرر منه، ليس لأنه يريد الضرر بهم، بل لأنه دخل في منظومة الفساد التي تجعله واحداً منها، ويقدر على خدمتها، وليس خدمة الذين أحبوه وهللوا لمجيئه! وهم لبساطتهم يظنون أنهم أوصلوه إلى مكانته، ولا يدركون أن توافر الشروط فيه هو الذي أهله ليكون فرداً من أفراد المنظومة المتجذرة في تربة الوطن المنهك والمنهكة!

كم من مسؤول حين تم تعيينه بدأ الناس التغني بخصاله الحميدة، والإشادة بما يملك من حب ومصداقية ومحاسبة، وقرب من الناس! ولم يمضِ وقت حتى كان هذا الإنسان المسؤول أبعد ما يكون عن كل صفة ألصقت به!

كم من متمول ورجل أعمال انهالت عليه المدائح بأنه صاحب يد بيضاء، يساعد الآخرين، يشعر بآلامهم، ويجود مما أعطاه الله، ثم لا يلبث أن يمتصّ رحيق هؤلاء، ويقلب لهم ظهر المجنّ ويظهر على صورة الكبر والتعالي التي لم تقدر على الاختفاء طويلاً!

كم من إنسان معدم، ومن منشأ معدم، وتنطبق عليه صفة العدمية، وهذا ليس عيباً، انقلب بين عشية وضحاها، وبقدرة منتشل فاسد، من طبقة العدمية إلى طبقة الموسرين، فصار يدخن الأرقى، ويشرب الأنقى، ويعاشر الأجمل، ويختار النوادي الراقية، ومن عدميته قد يصرف الملايين، وربما المليارات، والناس يتسابقون إلى العيش في ظله الوارف من دون أن يسأل أحدهم سؤالاً وجيهاً: كيف صار العدم غنى؟!

كم من رجل دين أو عالم يشهد الناس بانحيازه حيناً، وعدم معرفته الدينية أحياناً، وبلهاثه خلف المتمولين والنافذين، وتحويره لوجهة المؤمن من المحراب إلى أماكن أخرى، ولكننا في الوقت نفسه نشهد من يدافع عنه، ومن يحاربك إذا أشرت إليه إشارة، ويكفّرك إذا صححت له معلومة، حتى لو كانت في قراءة آية من الإنجيل أو القرآن، وربما وصل تكفيرك إلى زوجك وأولادك ومحيطك، فأنت تأكل لحم العلماء، ولحم العلماء سام!! وتصبح أنت منبوذاً، ويبقى هو مقرباً محاطاً بهالة من النور والتقديس والفوائد المادية والمعنوية، والمادية هي الأكثر أهمية لديه!

وكم من مثقف أو أستاذ حصل على شهاداته بطريقة أو بأخرى، وتسلم أرفع المواقع الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهو لا يجيد شيئاً، ولو حاولت أن تصوّب أمراً يتعلق به فأنت حاقد وحاسد، وهو معه العذر، لأن الموقع والمنبر لهما (وَهْرَة) على قول العامة، ومن حقه أن يلحن باللغة العربية ويحطمها، ولو كان الأمر متعلقاً بجوهر اللغة! فهو فلان! ومن حقه أن يخطئ في القرآن، فهو يا عيني لا يحفظه! ومن حقه أن يخطئ في التواريخ فهو ليس الطبري!

وكم من فنان مبدع نرقص على أطراف أصابعنا على قرع طبل فرقته، أو على صوت موسيقاه، سواء كان راقياً أو هابطاً حسب التعبيرات الدارجة، ولكن لا يعرف نجيب الريحاني، ولم يسمع بمحمد محسن، ولا بعمر حلبي، ولا بمها الجابري، بل أيضاً لا يعرف نصري شمس الدين وفيروز وعبد الحليم، وعبد الوهاب عنده قماشة بالية! لكننا ندفع له الملايين ونرقص على أغنياته، ولا تتم أفراحنا إلا به!

لا ريب في أن الفساد استشرى، وأن الحكومات والدول تعجز عن محاربته ومحاربة منظومته أحياناً، وترعاها أحياناً حسب الظروف، ولكن الفساد يبتسم ساخراً من الجميع ما دام المجتمع يقدر الفاسد ويقدمه، وما دام المجتمع يتقبل العيش على مائدته، وما دام المجتمع يهلل له ويدعو له بطول الحياة!

الفساد يبدأ منا نحن أيها السادة، فلا تقف لفاسد! ولا تأكل من مائدة لص! ولو اجتمعت هذه الأخلاقيات الفردية فسيجد الفاسدون أنفسهم وحيدين عارين، وتبدأ مرحلة جديدة.. من الصعب أن يحدث شيء فالفساد مؤسسات، والأفراد أفراد ولكل أمر مسوغاته، عند كل واحد.. الجوع كافر.. العين لا تقاوم المخرز.. القوي قوي.. اليد العليا.. والعبارات لا تتوقف.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن