من دفتر الوطن

من المِنْيَة إلى المَنِيَّة!

| حسن م. يوسف

منذ قرابة ساعة وأنا أحدق بالشاشة البيضاء، في حالة عجز، لأن عقلي يأمرني بألا أكتب عن مآسي الموت المجاني مجدداً، رغم أني ممتلئ بالموت. في الأسبوع الماضي كتبت عن مأساة المهندس السوري محمد برجس، الذي حلم بأن يؤمن لطفله حياة كريمة، فكان أن كتب البحر لقصتهما نهاية أخرى. ومن غير الطيب أن أكتب لكم اليوم لأحدثكم عن مآسٍ أخرى يزيد عددها عن السبعين، ربما كان بعضها أكثر مأساوية من قصة المرحوم محمد برجس.

طوال حياتي المهنية كان التزامي بتسليم زاويتي الصحفية في موعدها شبه مقدس، إلا أنني قد أتأخر عن الموعد المحدد لتسليم الزاوية اليوم، لأنني لا أريد أن أكتب عن الموت، والموت يكمن لي عند كل حرف ونقطة وفاصلة. صحيح أن لدي من الموضوعات والقضايا الصالحة للكتابة ما يكفيني عاماً وربما عامين، لكنها كلها تبدو لي باردة وبلا شحنة، ربما لأنني أمضيت وقتاً طويلاً في تتبع أحلام وأوجاع ركاب مركب الموت الذي انطلق من (شاطئ المنية) قرب مدينة طرابلس اللبنانية، ليغرق قبالة شاطئ طرطوس ويغرق معه أكثر من سبعين سورياً ولبنانياً وفلسطينياً.

لم أصدق عيني عندما قرأت اسم الشاطئ الذي انطلق منه المركب، للحظات ظننت أن الاسم من نحت أحد الصحفيين وأن المقصود به «شاطئ الموت». إلا أنني رأيت الاسم مرة أخرى في تصريح رسمي فاستعنت بخرائط العم غوغول لأكتشف أن الاسم حقيقي لكن تشكيله مختلف، أي أن ركاب ذلك الزورق انطلقوا من «شاطئ المِنْيَة» إلى المَنِيَّة!

أصارحكم أن شعوري بالفخر كان عظيماً عندما قرأت عن استجابة أخوتي الأرواديين الشجعان لنداءات الإغاثة التي انطلقت من مآذن جزيرة أرواد، فانطلقوا غير عابئين بالموج العالي الذي أغرق المركب بل ركبوه لإنقاذ كل ما يمكن إنقاذه. وأعترف أن بحري قفز عن عيني فخراً بالأرواديين عندما علمت أن عائلات أرواد الكريمة قد تخلت عن مخصصاتها القليلة من المازوت، التي تكنزها لمواجهة برد الشتاء، كي تُمَكِّن كل الزوارق من الانطلاق لإنقاذ ضحايا مركب الأحزان.

لا شك أن قضية الهجرة هي أحد أهم الموضوعات المطروحة على مستقبل منطقتنا، وقد قالت جريدة «غارديان» البريطانية في أحد أعدادها الأخيرة إن «عدد اللاجئين الذين فُقدوا في البحر المتوسط وحده منذ عام 2014 يبلغ أكثر من 24 ألفا».

يقال إن من يعملون في تهريب المهاجرين يربحون ملايين الدولارات. كونهم يتقاضون نحو ستة آلاف دولار على الشخص الواحد

البعض يرون أن «ظروف الحياة الصعبة وانسداد الأفق دفع هؤلاء لركوب البحر». آخرون استثمروا الكارثة سياسياً فألقوا باللوم على السلطات والحكومات التي لم توفّر لهؤلاء المواطنين «الحد الأدنى للعيش بكرامة في بلدانهم». آخرون لاموا الحرب دون تحديد مشعليها ومموليها. آخرون انتقدوا الضحايا لأنهم جازفوا بأنفسهم واتخذوا قرار الإبحار في «قوارب الموت»، رغم تكرار حالات الموت غرقاً. أحد الصحفيين حمل مجتمعاتنا المسؤولية: «نحن قوم نلفظ أولادنا في البحر والبر والجو قاسمهم المشترك يأس مقيم وحاجة ملحة للهرب».

آخرون ألقوا بالمسؤولية على أمواج البحر الغدار فرد عليهم ابن البحر المحامي والقاضي الفاضل طه الزوزو قائلاً: «ليس من شيم البحر الغدر، ورمي المسؤولية عليه، تبرئة للمجرمين الحقيقيين».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن