في هذا الشرقِ البائِس، لن تحملَ لنا أمواج البحر من مآسٍ وفواجع أكثر مما حملتهُ أمواج التخوينِ والتكفير، تلك الأمواج التي كانت وما زالت تضربُ شواطئ أمننا وسلامنا فحولتنا إما لخبرٍ عاجل أو صورة ولقطة يتقاذفها تُجار الإنسانية في هذا العالم القذر، لن تفعلَ فينا حيتان البحر أكثر مما فعلهُ فينا حيتان الفساد والإرهاب، نتفق مع ذلك بل إننا نمتلك القدرة على مواجهةِ الحقائق لكونها الخطوة الأولى لاجتناب الكوارث، لكن في المقابل لم يعرف التاريخ حقائقَ مكتوبة برمالِ البحر التي تتقاذفها رياح «الإنسانيون الجدد» كما هي تلك الحقائق المكتوبة على شطآنِ مآسينا، لتتقاذفها، تمحيها وتُعيد تشكيلها على هواها والنتيجة واحدة: جميعنا ضحايا!
ليسَ من الواقعيةِ في مكانٍ أن ترى الجزء الذي يناسبك من تشكيل الصورة، هذا مرض كان وما زال يجعلنا في الرتلِ الأخير من ترتيب هذا العالم.
تخيلوا أن يقفَ الرئيس الأميركي جو بايدن في مقرِّ الأمم المتحدة ليحاضِر بالعفة، يحذر من عواقب عدم احترام سيادة الدول وعدم التورط بحروبٍ ضدها من دون إجماع في مجلس الأمن وهناك ملايين صفقوا له، أي مآسٍ تلك المكتوبة على رمالِ البحر؟! هل لنا أن نتخيل حجم ما نعيشه من دجل؟!
تخيلوا أن يقف قادة ما يسمى الاتحاد الأوروبي في المكان ذاته ليحدثونا عن أزمةِ الغذاء القادمة بسبب ما يسمونه «الاعتداء الروسي على أوكرانيا»، هذا الاتحاد نفسه دمر اقتصاديات دولٍ ويمنع عنها حتى استيراد حليب الأطفال، مالكم لا ترون إلا ما يحلو لكم؟!
دائماً يجب علينا أن نتساءل في هذا الشرقِ البائس: متى توحدنا الفواجع؟! متى سنفهم بأن الفواجع ليست مادة للاستثمار بها والموت ليسَ سلعة لتصفية الحسابات وتقاذف الاتهامات، الفواجع هي فرصة حقيقية لنتحدثَ بهدوءٍ ونعيد ترتيب أحزاننا، وهل لنا في هذا الشرق ما نعيد ترتيبه غير الأحزان؟!
بالكاد بدأت الجهات الرسمية السورية عمليةَ إنقاذ مركب قيلَ بأنهُ يحمل أكثر من مئة وخمسين مسافراً بينهم نساء وأطفال، غرقَ قبالة السواحل السورية حتى فُتحت جبهة إعلامية عابرة للحدود لا يبدو أنها ستنتهي قريباً، هذه الحرب الكلامية التي احتضنتها ساحات العالم الافتراضي لم تراع حرمةَ ميت ولا أحزان أهل، طرفان اعتدنا أن يكونا دائماً في الواجهة، يتصارعان لا تعرف على ماذا؟ لكنهما ببساطةٍ يبيحان لنفسيهما استخدام أي وسيلةٍ للنيلِ من الآخر:
الطرف الأول هو الذي لم ينفك منذُ اندلاعِ هذه الحرب اللعينة على هذا الشرق عن توزيع صكوك بالوطنية والانتماء، حقيقةً هم من يصح بهم قول الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي: من أنتم؟! هؤلاء يشعرونك بأن الوطنية تُباع على مبدأ «الدوكمة»، الوطنية حيث تكون أفكارَهم فقط لا حيث تلتقي أفكارهم مع أفكار غيرهم في هذا الشرق، لم يسلم منهم شهيد ولا قتيل ولا حتى غريق، يرون الوطن والوطنية من منظارٍ ضيق، تخوين هنا وانتقاد هناك والنتيجة أقل ما يقال عنها إنها قلة مصداقية وضعف في إيراد الحجج، هؤلاء ومن دون مجاملة أخطر على فكرة الوطن والمواطنة من المتأسلم الذي لا يرى حدوداً لوطنهِ!
على طريقةِ «السلفي القميء» الذي يقتل الأبرياء بسلاحٍ مصنوع في الغرب ثم يدَّعي تكسير البضاعة الإلكترونية لأنها مصنوعة في الغرب، طرحَ هؤلاء سؤالاً بنظرهم منطقي: كيف يهاجرون إلى بلدانٍ شاركت في تدمير بلدانهم؟ اللافت أن من يكتب سؤالاً كهذا يستعمل جهاز هاتفٍ أو حاسباً ليسَ مصنوعاً في الدول التي ينتشر فيها شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»!
تناسَوا الفاجعة وراحوا يتساءلون: كيف لمن يحمل هذه المبالغ الكبيرة من الضحايا التي تكلفها رحلة كهذهِ أن يدَّعي الفقر والرغبة في الهجرة للهروب من الجحيم؟! هؤلاء رأوا الحدث من منظورٍ ضيِّق، من قال إن المشكلة هنا هي بالوضع المادي فقط؟ لماذا لا نفكِّر باتجاهٍ آخر مبني على الرؤية المتكاملة؟ الرحلة كما كانَ مقرراً لها ستنتهي في إيطاليا، وأغلبية الضحايا يحمِّلون شهادات علمية عليا، كيفَ تمكنت عصابة تهريب البشر من إقناعهم بقدرةِ مركبٍ كهذا على قطعِ كل هذهِ المسافة؟ الفكرة ليست بقدرات هؤلاء المجرمين على الإقناع، الفكرة هي بحجم ما يعانيه الضحايا من يأس جعلهم يتجاهلون حتى أبسط البدهيات! من العقلانية بمكان أن ننتبهَ لفكرة أن ما يجري هو أبعد بكثير من مجرد وضعٍ مادي قد لا تتوقف ضحاياه عند حدود مركبٍ أو هروب جماعي، هل هو فقدان في الأمل؟ هل هو الضباب الذي يحيط بالأفق؟ لكل ظروفه ولكل قراره لكن هذا القرار أياً كانت نتائجه لا يعطي أمثالكم أفضليةَ توزيع شهادات بالوطن والوطنية! ثم من قال إن التصويب العقلاني والمنطقي على الأخطاء الحكومية التي تجعل كثراً يفكرون بالهجرة هو تبرئة للعدو من مسؤولياته لكونه يمارس حصاراً اقتصادياً على البلد؟ هذه الفكرة موجودة في عقولكم الضيقة التي لا ترى أبعدَ من التخوين، إذ من الطبيعي أن يتركز حديث من أصابه اليأس على الواقع الحكومي، لأن الحكومة هي ابنة هذا الشعب، هل تريدون منهم أن يتوسلوا المحتل مثلاً؟!
الطرف الثاني، هو الطرف الذي كفرَ بالأوطان وبهذا الشرق، هذا الطرف قادر على أن يحمِّل حكومات هذا الشرق حتى مسؤوليةَ ظهور جماعة «بوكو حرام»، هؤلاء مثلاً وفي حادث المركب الأخير تجاهلوا ما قامت به الأجهزة الرسمية والشعبية في الدولة السورية من استنفارٍ في العدّة والعديد براً وبحراً وجواً لإنقاذ من يمكن إنقاذه، سواء موظفين أو متطوعين، بعضهم كما أكد لنا أهلنا في طرطوس وتحديداً في جزيرة أرواد، حرم نفسهُ وأطفاله من وقود التدفئة في الشتاء ليتبرعَ بالوقود اللازم للمراكب لإتمام عملية البحث، كل هذا لم يشفع عند «المثقفين الجدد»، تمّ تجاهله في البداية لتبدأ عملية إلقاء اللوم على الدولة السورية بسبب هذا الهروب الجماعي وعندما أدركوا أن القارب أبحرَ من لبنان، وأساساً لم يُسجَّل في سورية حتى اليوم إبحارَ مركبٍ بهذه الطريقة لأن الدولة لا تزال موجودة، لم يتغير شيء في تعاطيهم مع الفاجعة، هذا ما يريد البعض تمريره في كل شاردةٍ وواردة، فكرة أن الدولة في سورية لم تعد موجودة، مع ذلك وعلى مبدأ «عنزة ولو طارت» ذهبوا مباشرةً للحديث عن الفساد والفشل الحكومي الذي يدفع الجميع للهرب، لم يسأل هؤلاء أنفسهم السؤال التالي: هل تذكرون قصة غرق الطفل السوري ريان، التي تحولت إلى قضية رأي عام على مستوى العالم؟ كم ريان ذهبَ في هذه الفاجعة، وغيرها من الفواجع التي لا يتم الإعلان عنها تحديداً بالقرب من السواحل الأوروبية حيث يتم إغراق مراكب بكاملها من السلطات المحلية من دون علم أحد؟ لماذا لم يمر الخبر حتى بمستوى العاجل في وكالات الإعلام الفرنسية الكبرى مثلاً؟! عندما لا ترى في كل مآسيك سبباً إلا الفشل والفساد الحكومي وتعتبر أن الدور الذي يلعبه الغرب ثانوي فأنت تلتقي مع موزِّع صكوك الوطنية القميء في الخندق ذاته، كلاكما يسيء لفكرتهِ ودفاعه وكلاكما فعلياً بات عالة على من يدافع عنهم؟!
في الخلاصة: لا أعرف حقيقةً أي خلاصةٍ علينا الحديث عنها، وهذه الفاجعة أعطتنا الكثير من الخلاصات أهمها هي تلك الروح العالية التي أظهرها أهلنا في الساحل السوري على المستويين الرسمي والشعبي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ربما هي النقطة المضيئة الوحيدة في كل هذا السواد الذي نعيشه، أما أكثرها سواداً فهي تلك الموجهة لمن يريد صب الزيت على النار في كلا الطرفين، من لا يمتلك عبارات تقرِّب ما بين الفاجعة والصبر من تباعد فليصمت، من المؤلم فعلاً أن كل سنوات الحرب لم تغيِّر فينا شيئاً، الدور اليوم علينا جميعاً لتوعية من ما زالوا مقتنعين بأن طريق البحر هو وسيلة سهلة للعبور نحو العالم الآخر. هو هراء، ولنتذكر دائماً طالما أن الأسباب التي تدفع هؤلاء نحو الجحيم لم تمت إزالتها فلن يكونوا آخر الضحايا، حلم الهجرة بأي طريقة بات يراود الكثيرين ممن فقدوا الأمل، وهم ليسوا قلة بالمناسبة، رحم اللـه الضحايا والعزاء لأسرهم، والأهم، العزاء لنا.