قضايا وآراء

إلامَ ترمز خطوة «الجولاني» في هذا التوقيت؟

| عبد المنعم علي عيسى

منذ أن خرجت محافظة إدلب عن سيطرة الدولة السورية في 28 آذار 2015 بتوافق جرى في حينها بين المملكة السعودية وتركيا، أتاح تشكيل «جيش الفتح» الذي ضم في تركيبته «فصائل جهادية» كان من أبرزها تنظيم «جبهة النصرة»، وزعيم هذه الأخيرة أبو محمد الجولاني، يسعى إلى التمكين لـ«إمارته الإسلامية» فيها، ففي الأول من نيسان، أي بعد خروج المدينة عن سيادة الدولة بثلاثة أيام فقط، قال: إن «مدينة إدلب ستحكم طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية»، وفيما بعد هذا التاريخ الأخير سيقوم بالعديد من الخطوات التي من شأنها تعزيز ذلك المسعى، وفي هذا السياق كانت هناك العديد من المحطات على ذلك الطريق، لكن أبرزها كان في الإعلان عن فك ارتباطه بـ«تنظيم القاعدة» الذي أعلنه أواخر شهر تموز من عام 2016 في خطوة تكتيكية لم تحقق مراميها تماماً، ليمضي بعد خمسة أشهر نحو الإعلان عن تأسيس «هيئة تحرير الشام» عبر الدمج ما بين فصائل عدة تنسجم في الإيديولوجيا لكنها تفترق عند سلم المصالح وعتبات الارتباط الخارجي، وسريعاً ما أدرك أن هذه التركيبة سوف تذهب تبعاً لتداعيات «السلم والعتبات» إلى انفجار تركيبتها، الأمر الذي دفعه في تموز 2017 للقيام بحملة عسكرية أدت من حيث نتائجها إلى بسط نفوذه على المناطق التي كانت تشاركه السيطرة فيها فصائل أخرى مثل «أحرار الشام» و«جند الأقصى»، ثم جاء إعلان أنقرة بعد شهر من هذا التاريخ الأخير عن وجوب إنشاء «هيئة مدنية» تتولى إدارة المساعدات الإنسانية للسكان القاطنين في ظلال تلك التركيبة، الأمر الذي اعتبره الجولاني اسنادياً بدرجة تفوق الإسناد العسكري الذي كانت تقدمه له أنقرة بعد أن استقر رأيها على أنه يمثل رجلها الذي ترعاه فيرعى مصالحها، وفي أيلول من العام المنصرم خرج الجولاني بفيديو يظهره وهو يرعى احتفالاً بتخريج دفعة من الضباط من «الكلية الحربية» التي سبق الإعلان عن إنشائها في وقت سابق من عام 2021.

كانت هدنة آذار 2020 الموقعة بين الطرفين التركي والروسي بمنزلة هدية كبرى للجولاني الذي قرأها على أنها الفرصة الأنسب للالتقاط الأنفاس والمضي نحو تكريس سلطة الأمر الواقع، بعدما استطاع التخلص من خصومه الداخليين وبسط نفوذه على الفصائل التي كانت تنازعه السيطرة على بعض الجغرافيا الواقعة تحت سيطرته، والشاهد هو أنه مضى يعمل على تغيير صورة تنظيمه، المدرج على لوائح الإرهاب، عبر تكريس الدور الذي يقوم به، وعلى الرغم من أن هذا الدور كان من دون طموحات الجولاني إلا أن الأخير كان مدركاً أن الفعل يمثل الآن أقصى الممكن أو المستطاع، واللافت هو أن زعيم «الهيئة» كان مدركاً جيداً للتأثير الكبير الذي يمكن أن تفرضه التحولات الإقليمية والدولية تجاه «إمارته» وخصوصاً منها رياح «أستانا» التي ذكرت تنظيمه بالاسم من بين التنظيمات التي يتوجب القضاء عليها في سياق التسوية الشاملة للأزمة السورية، لكن الرهان هنا كان ينصب على تقرير مفاده أن أنقرة، في ضوء الزمن المنظور، يستحيل عليها التفريط بورقة إدلب التي يمثل الجولاني فيها رأس حربة سيصعب على أنقرة، إيجاد بديل لها في ذلك الوقت أيضاً، وعلى الرغم من أن تلك التقديرات كانت تمتلك قسطاً كبيراً من الواقعية، بل وربما يصح القول إنها لا تزال وستبقى لوقت قادم تمتلك ذلك القسط لاعتبارات تتعلق بأوراق التفاوض التي ستمسك أنقرة بها عندما تدور عجلة المفاوضات التي تشير تقارير إلى أنها قد تقلع شهر تشرين الأول المقبل، إلا أن الحسابات هنا لم تكن تأخذ بعين الاعتبار تلك «الرمال المتحركة» التي سادت المشهد ما بعد 24 شباط الماضي، والتي أنتجت واقعاً، إضافة إلى عوامل أخرى، قاد نحو فتح قنوات التواصل ما بين أنقرة ودمشق، الأمر الذي ستكون له تداعيات بالغة الأهمية على كل من ملفي إدلب وشرق الفرات.

في مطلع أيلول الجاري أعلنت «الحكومة المؤقتة» التي تمثل الذراع السياسي لـ«هيئة تحرير الشام» عن إصدار «بطاقات شخصية» للأفراد الذين يقيمون في مناطق سيطرتها، والفعل الذي من المقرر أن تكون له تداعيات سلبية على كامل المشهد والأزمة السورية، له دلالات لربما يكون التوقيت الذي جاء فيه كاشفاً للمرامي، أو بوجه أدق للسياق الذي دفع بـ«تحرير الشام» نحو الإقدام على تلك الخطوة.

يمكن الجزم بأن كل الخطوات التي سبقت هذه الخطوة الأخيرة كانت قد جرت في ظل دعم وإسناد تركيين يرقى إلى مستوى «المشورة أو التوجيه» وصولاً إلى «الإملاء»، لكن خطوة الجولاني الأخيرة هي من النوع الذي يصعب إدراجه في هذا السياق آنف الذكر، حتى ولو تم وضع الأمر في سياق قيام أنقرة بـ«تثقيل» جعابها التفاوضية قبيل الجلوس إلى طاولة تبدو عمليات ترتيبها قيد التحضير، والراجح هو أن الجولاني مضى نحو ما مضى إليه في سياق «المشاغبة» على الدور التركي الذي يراه بوضعية من يقوم بحرق مراكبه التي أقلته إلى شواطئ «المعارضة السورية» كخيار تبناه لأجل إسقاط نظام دمشق، والذي كانت تراه أنقرة مفتاحياً للولوج إلى كامل المنطقة العربية في محاولة لتكرار سيناريو «مرج دابق» 1516 لكن بأدوات وطرق مختلفة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن