من دفتر الوطن

حلمك علينا يا بحر

| عصام داري

في «شرق المتوسط» نحمل أحزاننا ونلجأ إلى البحر نبثه شكوانا وهمومنا، ونتطلع إلى ما وراء هذا البحر الواسع.

نتخيل فيما بعد نهاية البحر.. جنات على مد النظر وواحات أمن وأمان وأمل و.. سلام، ونتوق إلى اكتشاف تلك الجنة وذلك السحر الذي ينادينا.

جنات تمتد من إيطاليا إلى اليونان وما بعدهما، تنادينا بصوت مسموع، وهناك من يلبي النداء، مع أنه نداء مكتوم وخافت وغامض، لكننا نلبي النداء، فصورة الجنة الموعودة غاية في السحر والجمال!

كنت أعشق البحر، كما تغني نجاة الصغيرة:

أنا بعشق البحر…

زيك يا حبيبي حنون..

وساعات زيك مجنون..

ومهاجر.. ومسافر..

أحياناً نلجأ للأغنية في كتاباتنا عندما لا تسعفنا الأبجدية، وفي الأغنية يصاب البحر بالجنون أيضاً. نعم، إنه مجنون لأن المجنون وحده هو من يبتلع الأطفال، وينتهك حرمة الطفولة، وهو من يقهر الروح والنفس وينهي حياة الناس في لحظة خاطفة.

ناس حملوا على ظهرهم أحلامهم الصغيرة التي هي كل ما يملكون، لكن رحلتهم انتهت قبل أن تبدأ، وانتهى المشوار، فهل تعب المشوار كما يغني الراحل فؤاد غازي الذي كان يخشى غدر البحر فغنى له أيضاً: «حلمك علينا يا بحر»، لكن البحر لم يكن حليماً ولا رحيماً بمن وثق بأمواجه وهدوئه فغدر بهم وبنا ومارس جنونه علناً فخطف من خطف ولفظ إلى البر من لفظ.

نحمل أحزاننا ونأتي إلى البحر، لكنه يصر أن يوسع دائرة الحزن قليلاً، وربما كثيراً فنحن عشاق الحزن في كل زمان ومكان.

كتبت ذات مرة عن أغنية للمطرب الإيطالي ببينو دي كابري يقول مطلعها: الحزن في أيلول، ونحن في شهر الحزن، ولا ينفع أن نتذكر أغنية فيروز «ورقه الأصفر ذهب أيلول» لأننا نتقبل أوراق الحزن في أيلول على طريقة المطرب الإيطالي.

ترى هل هناك إحصاءات دقيقة أو تقريبية عن عدد الأشخاص الذين ابتلعهم البحر وبدد أحلامهم الصغيرة، وخاصة السوريين منهم؟

هل هناك من سأل عن السبب الذي يجعل أسراً بكاملها تركب قوارب لا تصلح لصيد الأسماك، فكيف ببني البشر، وخوض مغامرة خطيرة للغاية، وأثبتت التجارب السابقة أن الناجين قلة نادرة؟

لماذا يترك الناس رغد العيش! ويمخرون عباب البحر في رحلة (اللي يروح ما يرجعش) كما يقول أشقاؤنا في مصر الحبيبة؟ وهل البحث عن الفردوس المفقود يستحق كل هذا العناء ودفع الثمن باهظاً من أرواح بريئة وطاهرة؟

حلمك علينا يا بحر فقد تكالبت علينا كل كائنات الأرض وها أنت تتحالف معها جميعاً وتضرب بشدة على أيدينا ربما لتربينا وتعلمنا أنك غادر ومجنون مع أنك أحياناً تمارس دور الحنون.

لم نتعلم من الدروس أبداً، فالذين اختاروا البحر كي يسطرون نهاية مشوارهم، هم أنفسهم الذين ساروا على دروب الجلجلة فكتبوا أسماءهم في سجل الشهداء، ومنهم من سجل اسمه في قوائم المنتحرين، فمن عرف مصير من سبقوه في رحلة البحث عن الفردوس المفقود، أو عن الجنات على مد النظر، يعلن أنه ينتحر برضاه عندما يكرر فعل من غرق في مرات ومرات سابقة.

بكلمة واحدة: علينا معالجة الأسباب التي تدفع الناس إلى الانتحار والموت والهرب من الوطن الذي يفترض أنه وطن الجميع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن