مصطلح المجتمع المدني، بات الأكثر رواجاً في اللغة السياسية والتنموية في معظم دول العالم، يستخدم بأشكال متعددة وبمعانٍ متنوعة وغالباً ما تكون مناقضة للأهداف السامية التي أنشئت لأجلها أو رُوِّج لها.
منذ نهاية الحرب الباردة، وعبارة المجتمع المدني، فُرِضت كمفهوم سام لتعزيز التنمية البشرية في الحياة العامة، كما جرى الترويج لبرامج منظمات أو جمعيات المجتمع المدني، في الخطابات العلمية والجامعات ومراكز الأبحاث الملحقة بها وحتى في التقارير الإعلامية وفي الصحافة المكتوبة أو المرئية، لكل ما يصدر من كتابات وبرامج عن المؤسسات الدولية التابعة للاتحاد الأوروبي، البنك الدولي، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، من دون أن يكون لهذا الرواج أي مدلول دقيق ومحدد لمصطلح المجتمع المدني.
مفهوم المجتمع المدني في السياسات التنموية غالباً ما يكون مطاطاً ودائم التكوين، لكنه فارغ من حقيقة المعنى ويُملأ بمعانٍ معينة تبعاً للجهات التي تستخدمه وطبقاً لبرامج الدول الداعمة للمنظمات المنضوية تحت المسمى نفسه، وفي سياقات الأهداف الاجتماعية والثقافية وما خفي من أهداف سياسية واقتصادية.
تجربة منظمات وجمعيات المجتمع المدني لم تكن مشجعة في كل من لبنان والعراق وسورية والسودان وليبيا، ففي لبنان مثلاً ظهر مصطلح منظمات المجتمع المدني بقوة عقب انطلاق التظاهرات والاحتجاجات على الوضع المعيشي والانهيار الاقتصادي في 2019، ليتبين لنا فيما بعد أن معظم المنظمات والجمعيات المنضوية تحت مسمى المجتمع المدني، كانت المرشد والمحرض على الاضطرابات الأمنية والمعطل الرئيسي لبرامج الإصلاحات المطروحة في الدولة، لأنها لم تكن إصلاحات تضمن تنفيذ أهداف وبرامج سياسية محددة، تابعة للدول الداعمة لمنظمات المجتمع المدني أو لبرامج صندوق النقد الدولي، وبتوجيه مباشر من السفارات الغربية العاملة في تلك البلدان وعلى رأسها السفارات الأميركية.
الوكالة الأميركية للتنمية الدولية «USAID»، عرّفت المجتمع المدني بالمنظمات غير الحكومية، يمكنها الدفع باتجاه إجراء إصلاحات بنيوية وبطرق ديمقراطية، كما أن هذه الوكالة وضعت عام 1991 قائمة محددة بما يمكن إدراجه تحت مفهوم المجتمع المدني، من الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية الوطنية، مثل الجمعيات القانونية، أو الطبية أو التعليمية والثقافية وحتى التجارية واستتباعاً معاهد البحوث والجامعات أو المراكز الأكاديمية ومراكز الفكر والبحث والنقابات العمالية أو المنظمات الإنسانية والنسائية أو جمعيات ومسميات تعنى بحقوق الإنسان والمرأة أو الطفل.
أما البنك الدولي من جهته فقد تبنى تعريفاً للمجتمع المدني، أعدّه عدد من المراكز البحثية الذائعة الصيت المروجة لبرامج البنك الدولي والتي تعرّف مصطلح المجتمع المدني بمجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية المؤثرة في الحياة العامة، ولديها قدرة على ترجمة اهتمامات وقيم أعضائها أو المواطنين في ظل تقصير أو عجز الدولة المركزية في تأمين الأعباء المشار إليها، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية، ومن ثم يشار إلى مصطلح منظمات المجتمع المدني بمجموعة عريضة من المنظمات، تضم الجماعات المجتمعية المحلية، والمنظمات غير الحكومية، والنقابات العمالية، وجماعات السكان الأصليين، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، والنقابات المهنية، ومؤسسات العمل الخيري، «حسب موقع البنك الدولي الإلكتروني».
أما في منظور الحوكمة الأوروبية، فإن تعريف مصطلح المجتمع المدني ينحصر بالمنظمات غير الحكومية، جمعيات مهنية، جمعيات خيرية، منظمات شعبية، منظمات لمشاركة المواطنين في الحياة المحلية والبلدية، وبمساهمة محددة من الكنائس والمجتمعات الدينية، حسب موقع المفوضية الأوروبية للعام 2001.
واضح مما ورد أعلاه أن المجتمع المدني لا يزال مفهوماً ينتظر التعريف الدقيق، ومع ذلك فإن هذا المفهوم المتعدد المعاني والملتبس والمربك موضع النقاش، قد نجح في تصدّر المفاهيم للمجتمع وحتى في غسل أدمغة أجيالنا ومجتمعاتنا في كل من سورية ولبنان والعراق ودول إفريقيا.
منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي غالباً ما تعتبر العبارات الطنانة أدوات مفيدة للمجمع التنموي الدولي، فاستعمالها يخلق تأثيراً إيجابياً لدى العامة من الناس فور استخدام هذه الكلمات الطنانة، وهي مصطلحات ذات مفاهيم دارجة بملامح غامضة ومحتوى غير محدد في كثير من الأحيان، توحي بمدلولات مرغوبة تدغدغ مشاعر الشباب مثل الحد من الفقر، اللامركزية، الشفافية، الديمقراطية، وذلك للتغطية على تعزيز النيوليبرالية المتوحشة المؤدية حكماً إلى تقليص دور الدولة المركزي لمصلحة سياسات الخصخصة، وتحرير الأسواق، وفتح الأجواء وتعزيز سلطة الشركات صاحبة الوكالات الحصرية.
ومن هنا تكون مقولة التنمية حاضنة لصناعة «نيو مجتمع» تحت مظلة المجتمع المدني، فبدل الانصراف إلى تنفيذ مشاريع التنمية، كما يبدو للملاحظة غير المدققة، تصبح منظمات المجتمع المدني واحدة من مشاريع التنمية لخدمة السياسات النيوليبرالية والطبقة الحاكمة ولو كانت منغمسة بالفساد شرط تنفيذ هذه السياسات محلياً وعالمياً.
اعتمدت النيوليبرالية في ثمانينيات القرن الماضي نظريات التحديث كشرط أساسي للتنمية، في داخل الدول والمجتمعات المطلوب تنميتها، أما العقبة الأساسية فتكمن بحصول اختلال بنيوي في النظام أو في عجز الدولة المركزية عن معالجة هذه الاختلالات، وهنا تظهر منظمات المجتمع المدني في الميدان لتنفيذ عملية إيهام المواطن بوجود إمكانية لإصلاح الخلل الحاصل في الدولة، أو لسد الفجوة بين الدولة والمواطن أو للتعويض مالياً وإنمائياً.
إصلاح الدولة حسب مفهوم المجتمع المدني غالباً ما يكون مشروطاً بضرورة اتباع الدولة لمعايير نظام العولمة العالمية، المعزز لدور النيوليبرالية الداعية إلى تنفيذ برامج إعادة هيكلة الدولة وفي النتيجة تصبح الدولة دولة الحد الأدنى، لصالح التوسع في حرية الأسواق والأجواء وخصخصة المرافق العامة بموازاة تقليص دور الدولة.
تعلمنا في كتب التاريخ أن الحروب بين الدول كانت تتسم بالخسائر البشرية الفادحة، لكن كتب التاريخ القديم لم تعد مرجعاً صالحاً لاستشراف المستقبل نظراً لتطور الأساليب، فالحروب القديمة انتهت إما باتفاقيات سلام أو باستسلام أحد الأطراف المتحاربة وإما بالاحتلال والهيمنة على جغرافيا محددة.
معظم منظمات المجتمع المدني تخوض في بلادنا العربية حروباً هادفة إلى تفكيك مركزية الدولة، وبالتالي إلى كي وعي المجتمع والهيمنة على تفكيره وذلك بتغيير ثقافته الوطنية وعاداته وتقاليده وحتى بتبديل قناعاته ومبادئه السياسية والاجتماعية وبأقل الخسائر البشرية، وذلك لاستعادة سياسات الاستعمار ومن أجل ضمان استمرار ارتهان الإنسان وإيرادات بلادنا العربية لمصلحة المستعمر الجديد، تحت مسمى منظمات المجتمع المدني وأفرعها.