«نيرونُ ماتَ ولم تمُت روما بعينيها تُقاتل»، بيت من الشعرِ قيلَ في وصفِ طغيان نيرون وصمودِ المدن مهما أحرقها الطغاة، لكن من قال بأن المدن وحدها تبقى ولو اضطرت للقتالِ بعينيها؟ دعكم من رومنسيات الشعر التي لا تُسمن ولا تُغني عن جوع، ماذا لو قلنا مثلاً: يوسف القرضاوي مات، ولم تمت الفتنة بعينيها تقاتل!
في أحد خطاباتهِ في قلب الأزمة خاطب الرئيس بشار الأسد الغرب وحذرهم بأن الإرهاب الذي يدعمونه ليسَ مجردِ شخصٍ ينتهي بانتهائه، الإرهاب فكرة لا حدود ولا ضوابط لانتقالها فالذي تدعمهُ اليوم قد ينقلب عليكَ في الغد والأمثلة لا حدود لها، بذات السياق فإن ما تركهُ القرضاوي من فتنٍ ودعواتٍ للإرهاب بشكلٍ علني، لن تنتهي بنفوقه وستبقى تُقاتلنا طالما أن الدفاعَ جاهز ومكررٍ منذ قرونٍ من الكوارث حتى بحديثٍ مغلوطٍ على سياقِ «أخطأَ فلهُ أجر»، حتى لو كان هذا الخطأ قد دعا لقتل ستة ملايين مواطن سوري فقط لا غير، حتى لو كان في رقبتهِ دم شهيد المحراب فضيلة العلامة محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله، لأن عدونا قادر في أي وقت أن يصنع لنا ألفَ ألفَ قرضاوي طالما أننا نعطيهِ أريحية في الاستناد إلى الباطل، الأمثلة لا تزال حاضرة أمامنا من الماضي وتعَامينا عنها، من يجرؤ اليوم على القول إن ما يُنسب للمدعو ابن تيمية لا يجعل منه شيخاً حتى للزنادقة؟! لا ندري قد يأتي بعد قرنين أو ثلاثة من يتحدث عن فتوى منسوبة لـ«شيخ الإسلام القرضاوي» بأنها ليست له وهو منها بريء وتصل عقوبة من ينتقده أو ينتقد فتواه حد الرجم من قبلِ حُراس الهيكل، إنه التاريخ الذي يُعيد نفسه فقط على من لا يمتلكون شجاعة الاعتراف والتغيير.
ماتَ مفتي الناتو، لعله اللقب الأكثر واقعية في تاريخ هذا الأمعة، وبدل أن يمدَّ اللـه في عمرهِ الخبيث ليرى عودةَ سيدنا محمد عليه السلام ليضع يديه بيد «ناتو» على حدّ وصفهِ في محضِ تبريرهِ لدخول «ناتو» إلى ليبيا واحتلالها وتدميرها، تركَ الناتو في وضعٍ لا يُحسد عليه، فكيفَ ذلك؟
مطلعَ هذا الأسبوع افتتحت قناة «بي أف إم» الإخبارية الفرنسية ملفها السياسي الأسبوعي بعنوان واحد: «فلاديمير بوتين.. الصعود إلى أين؟»
ربما أن القناة لم تشأ أن تطرح السؤال بالصورةِ الأدق: أوروبا مع الصعود الروسي إلى أين؟
هذا السؤال في الحقيقة لم يعد مجردَ ترفٍ فكري، لم يعد سؤالاً ليملأ الكتَّاب زوايا الصحف به، هذا السؤال بات مفتاحاً لتساؤلاتٍ أعمق بات البعض يطرحها بوجلٍ، قد تبدأ بعبارة هل انتهى الاتحاد الأوروبي وبدأ بالتفكك؟ ولا تنتهي إلا باستقراءاتٍ مثيرة: هل من اتفاقٍ ضمني روسي أميركي على إنهاء أوروبا؟
حبس العالم أنفاسهُ مع إعلان الكرملين بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيلقي خطاباً مهماً، فعلياً لم يخلف الخطاب التوقعات أبداً تحديداً أنه استند لنقطتين أساسيتين:
النقطة الأولى هي الثبات في الوضع الاقتصادي الروسي، هذا لا يعني بأن الاقتصاد الروسي لم يخسَر لكنه خسر من ميزانِ الأرباح دون أن تتأثر حياة المواطن كثيراً في القدرة الشرائية وهو ما كنا نقوله دائماً بأن الروس يريدون إطالة زمن الحرب ليضغطوا في الاقتصاد وهو ما تحقق لهم، حيث إن الأوروبيين حتى الآن على الأقل وحدهم من يدفع ثمن الحرب الروسية على أوكرانيا والأهم أنهم يدفعون هذا الثمن من دون أفقٍ ودون مكتسبات محتملة، على سبيل المثال لا الحصر فإن الروبل صعدَ متجاوزاً اليورو في مداولات بورصة موسكو إضافة للانهيار شبه التام للعملة الأوروبية أمام الدولار، هناك من يركز اهتماماته في الحديث عن أزمة الطاقة والتدفئة في أوروبا لكن في الحقيقة تبدو هذه الأزمة ثانوية تجاه الأزمات المتفرعة، فرنسا مثلاً قادرة على استخدام عشرات المفاعلات النووية المتوقفة لتوليد الكهرباء كبدائل للغاز لكن ما البديل مثلاً من الانخفاض في اليورو؟ معَ التذكير هنا بأنهُ لا يمكن للأوروبيين أن يستثمروا هذا الانخفاض بتوسيع نطاق التصدير لمنتجاتهم لكونهم أساساً ينتجون أغلبية منتجاتهم في الخارج، أضف إلى ذلك إخفاق ورقة الاستفادة من ضغطِ اللاجئين، ربما ما لا يذكره كثر وتحديداً المتعاطفون مع القيادة الأوكرانية أن الكثير من اللاجئين عادوا إلى بلادهم تحديداً في المناطق التي دخلت من جديد الاتحاد الروسي لأنهم وُعدوا بشيء والواقع شيء آخر تماماً.
النقطة الثانية، نجاح الاستفتاء المحلي الذي أقامتهُ دونيستك ولوغانسك وخيرسون وزاباروجيا للانضمام إلى روسيا، بمعزل إن اتفقنا أم لم نتفق مع أسلوب الاستفتاء لضم أو انفصال الأقاليم، إلا أن الأغلبية الروسية التي يشكلها سكان هذهِ الأقاليم كانت ضمانة قوية استندَ إليها الروس من الأساس للحديث عن الدفاع عن المواطنين الروس في تلك المناطق ضد «النازيين الجدد»، هذا الأمر الواقع ما كان ليتم لولا العملية العسكرية التي قام بها الروس في أوكرانيا، هناك من افترضَ فشلاً روسياً ساق الروس نحو الاستعجال بهذا الاستفتاء، لكن أي ذهابٍ نحو هذا الاتجاه هو ليسَ في مصلحةِ المدافعين عن الحكومة الأوكرانية لأنه قد يعني من زاويةٍ أخرى أن ما جرى هو اتفاق دولي ضمني على إنهاء هذه الحرب بالطريقة التي يبدو فيها الجميع راضياً عن النتائج، هذا الأمر تعززه الكثير من المواقف التي تلت الاعتراف، فالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وقَّع للمرة الثانية طلباً للانضمام إلى «ناتو» ربما في المرة الأولى لم يسمعهُ أحد، ليس هذا فحسب لكن الرجل الذي خسر من أراضي دولته ما يعادل تقريباً مساحة الأراضي السورية، خرجَ ليعلن شروطه لمحاورة الروس وهو رحيل الرئيس فلاديمير بوتين!
الرد الغربي كان فيهِ الكثير من الواقعية، مرحباً بأوكرانيا لكننا اليوم لا نسعى لمواجهةٍ مع الروس، لعلهُ تطبيق حرفي للمثل القائل: «مقسوم لا تاكل وصحيح لا تقسم وكول لتشبع»، هل هناك من يترجم لزيلنسكي التصريحات الغربية بصدقٍ وأمانة أم إن مستواه في اللغات الانكليزية والفرنسية يشبه مستواه في الكاريزما كرئيس لدولة بحجم أوكرانيا؟
الرد الغربي كذلك الأمر لم يخرج عن الواقعية المعتادة، لماذا لا نسرق الأضواء الإعلامية قليلاً في العالم الحر وندعو لجلسةٍ طارئة في مجلسِ الأمن تدين القرار الروسي بضم المناطق الأربع؟ ربما ليس من اللافت الدعوة لهذه الجلسة واستخدام الروس للفيتو إلا إن كان زيلينسكي يعتقد أن المندوب الروسي سينسى استخدام الفيتو، لكن ما هو غيرَ عادي أن تمتنع ثلاث دول كبرى عن التصويت، كم تشكِّل الهند والصين والبرازيل الذين امتنعوا عن التصويت إضافة إلى روسيا من عدد سكان العالم؟
ببساطةٍ، رمى الرئيس فلاديمير بوتين الكرة في ملعب الناتو، لكن هناكَ كرة أهم رماها في ملعب الأوكرانيين أيضاً علينا الالتفات إليها بواقعيةٍ مطلقة، ربما هذا الكلام قد لا يعجب من يرونَ بأن الروس أخطؤوا في العملية العسكرية في أوكرانيا، على هؤلاء أن يجيبوا أولاً عن هذا السؤال: لماذا يتحدث كثير من اللاجئين الأوكرانيين عن ثورة شعبية كانت شبهَ جاهزة في أوكرانيا للإطاحة بالرئيس زيلينسكي عشيةَ اندلاع الأحداث؟ هل كان خيار التصعيد من القيادة الأوكرانية هو نوع من الهروب نحو الأمام بإيعازٍ غربي للهروب من أسوأ السيناريوهات، هنا قد يسأل البعض وما السيناريو الأسوأ بالنسبة للغرب؟ ببساطة هذا السيناريو هي الكرة التي رماها بوتين في ملعب الأوكرانيين، ماذا لو أطاحت ثورة شعبية بالقيادة الحالية التي أدى تعنتها إلى تفكك البلاد وكان البديل من يحلم بالعودة فعلياً إلى الحضن الروسي؟
قد يبدو هذا الافتراض صعبَ المنال قليلاً، لكن من كان يعتقد أن من روج عبرَ إعلامه إلى قرب انهيار المنظومة الروسية وهروب الروس من بلدهم، باتَ اليوم يتساءل في السر: هل كان زيلينسكي صناعة أميركية أم روسية؟ لأن ما قدمه من خدماتٍ للروس فاق التصورات!
ربما ستطول الأيام لتظهرَ الكثير من الحقائق لكن الثابت الوحيد أن ليسَ على العالم أن يحبس أنفاسه لأنه لا حرب عالمية ولا نووية ستقع، لا أحد سيقاتل من أجل أحد، قلنا منذ اليوم الأول الخاسر الأكبر في كل ما جرى ويجري هم الأوكرانيون إن استمرت هذه القيادة المضحكة والنتيجة ماثلة أمامنا، حتى الناتو لا يبدو بأنه خسر جولة فحسب بعدَ أن خسرَ أحد أهم دعاته الإمعة يوسف القرضاوي، لكنه بذات الوقت بات عليه من الآن التفكير بالمرحلة التالية: أوروبا مفككة وضعيفة بحماية أميركية ونقطة على السطر، هل عن عبثٍ بقيت «روما» بعينيها تقاتل، لأنها فيما يبدو أول الناجين من محرقة اسمها الاتحاد الأوروبي، ونتيجة الانتخابات الأخيرة قد تكون البداية لما هو قادم.