قضايا وآراء

هل يتسع الوقت لعملية فتح «الرئات» على بعضها؟

| عبد المنعم علي عيسى

نشأت فكرة التقارب السوري – التركي في حمأة معطيات وحقائق أفرزتها التداعيات التي قادت إليها الحرب الأوكرانية، والمؤكد اليوم أن ذلك الفعل، أي التقارب التركي – السوري، بات يمثل حالة احتياج ومطلب لثالوث دمشق – موسكو – أنقرة، مع تسجيل حال من التفاوت تجاه نظرة أطراف ذلك الثالوث نحو الآليات التي يجب اتباعها جنباً إلى جنب مع الأهداف التي يرمي إليها كلّ حدّ من حدود المثلث سابق الذكر.

روسياً، موسكو باتت تنظر إلى أنقرة بعد سيل العقوبات الغربية المفروضة عليها، والتي من المقدر لها أن تزداد وتيرتها على وقع الخطوات الروسية الأخيرة المتمثلة بضم المناطق الأربع في أوكرانيا أخيراً، على أنها «الرئة» التي يمكن لها أن تتنفس من خلالها، وفي ذاك فإن تحييد الدور التركي في سورية، أو على الأقل وضعه في قوالب تكون قادرة من خلالها على التحكم بذلك الدور الذي يجب أن يصبح متناغماً مع المرامي الروسية الذاهبة نحو المحافظة على وحدة وسيادة سورية على أراضيها، يصبح فعلاً خادماً لموسكو، في سياق قيام معادلة قوامها تحييد الدور التركي لكن مع الإبقاء على وضع «الرئة» بحالة سليمة قادرة من خلالها على أداء دورها المنوط بها.

تركياً، تجد أنقرة نفسها معنية بقيام مصالحة مع دمشق لاعتبارات تراها ملحة قياساً إلى واقع تركي مأزوم اقتصادياً، والنظرة هنا أن دمشق يمكن لها أن تلعب دور «الرئة» لأنقرة الذي باتت تمثله الأخيرة لموسكو، عبر «المعبر» السوري الرابط ما بين الهضبة التركية ودول الخليج التي ذهبت أنقرة نحو فتح باب المصالحات معها قبل نحو عامين، وقياساً أيضاً لوضع نظام ما انفك يرى أن معارضته سائرة في طريق مراكمة الأسباب التي تجعلها قادرة على زعزعة عرش «العدالة والتنمية» الذي طال أمده حتى بات ثقيل الوطأة على الواقعين السياسي والاقتصادي التركيين، وفي ذاك يرى هذا الأخير أن دمشق باتت تمثل أيضاً «رافعة» قادرة على تعزيز فرصه بالنجاح عبر «ملف اللاجئين» الذي لا يمكن حله إلا بالتوافق معها، وذاك الملف، سيكون «بيضة القبان» في الصراع الانتخابي الذي سيكون مصيرياً لأطرافه، بل ولتركيا برمتها، هذا إن لم يكن محدداً للكثير من الأحداث الإقليمية التي ستعقبه، حيث من الثابت أن تغيراً محتملاً للمشهد في تركيا سيقود نحو تغيرات دراماتيكية في المنطقة من النوع الذي لا يشجع على الاستقرار النسبي الحاصل راهناً والذي طال الأمد حتى استقر على ما هو عليه.

سورية، ترى دمشق أن حل أزمتها لا يمكن له أن يصبح واقعاً من دون التقارب مع أنقرة الذي تراه فعلاً أشبه بالقبض على الجمر الذي لا بديل من القبض عليه، لكنها تضع في حساباتها أيضاً أن ثمة مكاسب، غير قليلة، يمكن لها أن تتولد بمجرد لقاء رئيسي البلدين الذي سيرسم صورة لا لبس في قراءتها سواء أكان بالنسبة لشارع اهتزت الصورة لدى شرائح وازنة منه، أم كان بالنسبة لمدلولاتها السياسية التي سترمز للكثير، فاللقاء المفترض، سوف يمثل تغييراً شاملاً لصورة الصراع الدائر منذ نحو إحدى عشرة سنة كانت أنقرة تمارس فيها دور «المطرقة» الذاهبة نحو إحداث «التفتيت الذري» للخلايا المكونة للنسيج السوري تمهيداً لـ«ابتلاع» الجغرافيا السورية أو ما تتيحه الظروف لابتلاعها، واللقاء المفترض، سيعني تلقائياً أن ذلك المشروع قد انكسر وباعتراف صادر عن رأس الحربة فيه، ولذاك أثره الذي يتعدى حدود الراهن ليطول المديات المتوسطة والبعيدة، صحيح أن دون ذلك أثمان ليست بالقليلة، أقلها المطالب التركية التي راجت حولها تقارير مفادها أن أنقرة قد تذهب إلى مطلب يقضي باعتراف دمشق بـ«شرعية» الوجود التركي على الأراضي السورية أسوة بنظيريه الروسي والإيراني اللذين يجمعهما مع أنقرة «مسار أستانا»! وبات من الراجح إذا ما وصل التقارب السوري – التركي إلى خواتيمه المرجوة أن يصبح المحدد لإيجاد تسوية شاملة للأزمة السورية هو «مسار أستانا»، الذي بلغ سنينه الخمس، لكن الصحيح أيضاً أن المكاسب، وبكل المقاييس، تتعدى كم الأثمان الذي لا يقف عند هذا الأخير بالتأكيد.

وفق هذه السردية السابقة يمكن النظر إلى مسار التقارب السوري – التركي على أنه أقرب ما يكون لمحاولة روسية تهدف إلى فتح «الرئات» الثلاث على بعضها بعضاً، بكل الفضاءات التي تتمتع كل واحدة منها على حدة، في ظل ظروف عصيبة أكثر ما يميزها هو «نقص الأكسجين» الذي باتت تعاني منه تلك الرئات الثلاث، ومشكلة الفكرة، التي قد تكون ناجحة فيما لو حسنت النيات، أن الوقت بات ضاغطاً عليها، بمعنى أن ما يفصلنا عن 18 حزيران 2023 اليوم الذي ستتحدد فيها مصائرها، لا يزيد عن ثمانية أشهر، وهو وقت قصير نسبياً قد لا يتيح المجال لحل الكثير من العقد اللازمة لإتمام عملية فتح الرئات آنفة الذكر.

كخلاصة يمكن القول: إن عصب الفكرة التي تتبناها موسكو يقوم على بقاء رجب طيب أردوغان في السلطة، والبديل عنه سوف يدخل تلك الفكرة، بل وروسيا برمتها، في مناخات لا تتشابه مع تلك التي نراها الآن، فحكومة بديلة لحكومة أردوغان، سوف تمضي بالتأكيد نحو حضن «الناتو» في مواجهة المشروع الروسي، وسوف يكون لزاماً عليها «تمزيق» كل موروث العهد الذي سبقها بما فيه خطواته التي يحاول أن يخطوها الآن باتجاه دمشق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن