كشف مراسل الشؤون العسكرية الإسرائيلية في صحيفة «يديعوت أحرونوت» اليشاع بن كيمون أمس أن «الجيش الإسرائيلي تعرض في شهر أيلول الماضي لأكثر من 212 عملية فلسطينية، 34 منها بإطلاق نيران مباشرة على دوريات الجيش وقوات الأمن»، وكان رئيس جهاز الأمن السري في الكيان الإسرائيلي «الشاباك»، قد رصد بموجب المصدر نفسه خلال شهر آب الماضي، 172 عملية مقاومة ضد جيش الاحتلال، كان من بينها 23 عملية إطلاق نيران مباشرة على قوات الاحتلال، ويبدو أن هذه التطورات غير المسبوقة للمقاومة الفلسطينية في السنوات القليلة الماضية وردود الفعل الإسرائيلية المتفاجئة منها، قد أجبرت قيادات أمنية وعسكرية رفيعة المستوى على الاعتراف بأن دوامة المقاومة المستمرة وتصاعدها سيستحيل التخلص منها، وكان من بين هؤلاء رئيس جهاز التجسس الإسرائيلي والعمليات الخاصة «الموساد» منذ 1989 حتى 1996 شابطاي شابيط، وبعد خدمة 35 عاماً في الموساد الذي نشر تحليلاً في صحيفة «يديعوت أحرونوت» أول من أمس تحت عنوان: «كم من دماء الإسرائيليين ستراق مقابل التمسك ببعض الأراضي»، فقد أبدى تراجعاً فيه عن سياسة التمسك بعدم الانسحاب من نسبة من أراضي الضفة الغربية لإنشاء دولة فلسطينية، ودعا إلى فصل الإسرائيليين عن الفلسطينيين، وأضاف شابيط: إن «الصراع الحقيقي يدور الآن مع الفلسطينيين حول نسبة من الأراضي»، أي بعد اتفاق أوسلو عام 1993، ولكي يدافع عن تبرير اعترافه بالهزيمة طالب الإسرائيليين بعدم «اتهام من يقبل بهذا الحل بالخيانة لأن «قيمة اليهودي الحي أعلى من قيمة الأرض، ولأن اليهود ظلوا يهوداً قبل أن يعود جزء منهم إلى الأرض»، وبهذا المضمون يضيف شابيط: «تصبح قيمة منع سفك دماء الإسرائيليين مقابل التنازل عن جزء من الأرض أهم من قيمة الأرض».
من الواضح أن شابيط لم يتوصل إلى هذا الاستنتاج إلا بعد عشرات السنين من المقاومة الفلسطينية، وبعد أن تبين له أن اغتصاب أرض فلسطين وبطش قوات الاحتلال لم يرهبا الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، علماً أن أريئيل شارون الذي خدم أكثر منه في جيش الاحتلال، وأصبح رئيساً للحكومة عام 2001 أدرك هذه الحقيقة من قبله وقرر بعد المقاومة البطولية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة وتكبيد أفراد جيش الاحتلال والمستوطنين خسائر بشرية داخل القطاع، الانسحاب من أراضي القطاع ونزع 22 مستوطنة منه من دون قيد أو شرط في عام 2005 بعد احتلال دام 38 عاماً، لم تهدأ خلالها فيه المقاومة في القطاع.
ها هو الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية في هذه الأوقات يسطر، باعتراف قادة جيش الاحتلال صفحات مستمرة لمقاومة متصاعدة فرضت على المستوطنين وقوات حمايتهم عجزاً واضحاً عن ضمان أمنهم ومستقبل وجودهم، فكل عائلة من المستوطنين تغادر الأراضي المحتلة للعيش في المكان الذي جيء بها منه يشكل إنجازاً للمقاومة التي بدأت ترهب جنود الاحتلال أيضاً، وتفرض عليهم دفع حياتهم ثمناً، على حين يرى شابيط أن بقاءهم أحياء وإيقاف نزف دمائهم أصبح أعلى قيمة من الأرض التي احتلوها، وهذه المعادلة أو المفاضلة التي توصل إليها شابيط، تعد مؤشراً بارزاً على تدهور قوة المشروع الصهيوني وزعزعة الثقة باستمراره عند قادة عسكريين مثل رئيس الموساد سابقاً، وبالمقابل تؤكد هذه المعادلة نفسها قيمة جدوى بالغة التأثير للمقاومة والتمسك بالحقوق وهذا ما يدل أيضاً على هزيمة العقلية الاستيطانية والتوسعية للمشروع الصهيوني أمام مشروع مقاومة الاحتلال مهما طال الزمن واشتدت ظروف الواقع الصعب، وكل ما قام به جيش الاحتلال من حصار وبطش طوال قرن من الزمن، فقدْ شكّل الشعب الفلسطيني ومعه الأمة العربية استثناءً فريداً بين كل شعوب العالم طوال ذلك القرن في تعرض وطنه للاغتصاب وفي تمسكه بهويته وبحقوقه وبمقاومته التي وإن تقطعت بين وقت وآخر، إلا أنها لم تتوقف خلال أجيال ثلاثة، بل تصاعدت عند هذا الجيل الرابع الذي سطر خلال شهري آب وأيلول من عام 2022 سجلاً نُفذّ فيه، باعتراف الكيان الإسرائيلي، أكثر من 384 عملاً مقاوماً، كان من بينها باعتراف قوات الاحتلال أكثر من 57 عملية عسكرية بنيران الرشاشات والبنادق، استهدفت جيش الاحتلال في معظم أراضي الضفة الغربية.