أي مصادفة هي التي قادت إلى رحيل الملكة البريطانية اليزابيت والشيخ يوسف القرضاوي، بتوقيت لا يفصل بين حديه أكثر من أسبوعين من الزمن، لكن لعل المشتركات العديدة ما بين الاثنين تبرر الفعل، فالأخيرة أكثر من أن تعد أو تحصى، ومنها أنهما كانا «تربين» أحدهما مجايل للآخر أو هو يكبره أشهراً فحسب، ومنها أنهما كانا صاحبي مشروعين متقاطعين بدرجة كبيرة بحيث إن أحدهما كان خادماً للآخر، كما القفل والمفتاح، فالمملكة التي غابت الشمس عن إمبراطوريتها، راحت ملكتها تبحث عن أذرع تمدد لها في المناطق التي كانت «تضيئها» تلك الشمس وهي وجدت في «إخوان» القرضاوي ذراعاً ناجعاً في شرق مثقل بالانشطارات التي خلفتها مفاهيم الدعاة، على حين وجد هؤلاء فيها مظلة يمكن أن يعتد بها للوصول إلى مرامٍ من نوع «استعادة الخلافة» الكفيلة بنهوض الشرق وفقاً لما كانوا يسوقون له، ومن المشتركات أيضا أن «دفتر» كليهما بات متخماً بالأوراق التي «اصفرت» منها تلك التي تختط «المقدمة» عليها، على حين حافظت تلك التي اختطت عليها «الخاتمة» على بياضها، في مشهد بدا ثقيل الوقع في الصورة وكذا في المضمون الذي افترضته بعد المسافة ما بين دفتي الدفتر، وفي مطلق الأحوال فإن الرحيل كان طياً لمرحلة تشابكت الكثير من مفرداتها فيما بين الدفترين.
كانت مسيرة «الشيخ»، الأزهرية في بداياتها، ذات إشكالية شديدة التعقيد، شأنها في ذلك شأن الإشكالية التي أحاطت بحياته الشخصية، فهو سيغادر بلده مصر عام 1977، أي في ذروة الجموح الإخواني الذي كانت تعيشه البلاد بكل ما يحمله الفعل من احتمالات تجعل من «الحلم» الذي كان يسكنه واقعاً، والشاهد هو أن ما راود مخيلة الرجل كان قد تبدى صارخاً عبر الهبوط الملحمي الذي نفذه في «ميدان التحرير» بوسط القاهرة في 18 شباط 2011، أي بعد أسبوع واحد من تنحي الرئيس السابق محمد حسني مبارك عن الحكم، فالمشهد كان بالغ الدلالة من جهة أن القرضاوي كان يحلم بأن يصبح إماماً «للسنة» لا ينازعه في مقامه هذا أحد، وبالعودة إلى المغادرة الآنفة الذكر يمكن التخمين بأنها حدثت بفعل توجسه من فشل «المقامرة»، أو أنه ارتأى أن ركوب الموجة لن يتيح له الفوز بسباق فيه العديد من راكبي الأمواج الذين يتمتعون بمهارة تفوق تلك التي يمتلكها، وعليه فقد كان قرار الرحيل إلى قطر نابعاً من رؤية مفادها أن التركيبة الدينية – العشائرية الحاكمة فيها تشكل بيئة خصبة قد تكون سبيلاً إلى العالمية إذا ما هبت رياح من النوع التي يمكن اغتنامها، والراجح أن الرؤية كان فيها الكثير من الصواب وإن كان الحظ وقف أيضاً إلى جانب صاحبها، والشاهد هو أنها ستلوح ذات صيف من عام 1995، عندما سينفذ حاكم قطر السابق حمد بن خليفة انقلاباً «تلفزيونياً»، على حد توصيف العديد من مراسلي وكالات الأنباء آنذاك، على أبيه، فـ«الكيمياء» بدت بين الرجلين شديدة التجانس، ثم إن احتياج أحدهما للآخر بدا على أشده، باختصار كانت «المحطة» القطرية عند ابن خليفة تنتظر فقط «لفحة» الشمس اللازمة لدخول المواسم مراحل الجني والحصاد، وهذي لا تكون إلا بتلك التي توفرها الطبعة الأميركية أو البريطانية، ويا حبذا لو اجتمع لهيب الشمسين معاً.
ما بعد عام 1995 راحت الإمارة القطرية تبدي جموحاً في أدائها لا تتيحه عوامل القوة والقدرات، ثم راحت توظف في عوامل تراها قادرة على تعويض النقص الحاصل في الجغرافيا والديموغرافيا معاً، من نوع تقديم الدعم والإسناد لتنظيم «الإخوان المسلمين» العابر للحدود واللامعترف بها، ثم عبر ذراع إعلامية كانت قد أحدثت صدمة في الشارع العربي انطلاقاً من الجمود الذي كان يعتري الخطاب الإعلامي الموجه لهذا الأخير، وكان المشهد يبدي تعطشاً لقيادة تستطيع هي الأخرى إحداث «صدمة» على مستوى الفتاوى التي تعني هنا مقاربة «الدين» لسياق الأحداث التي تجري وسوف تجري، على امتداد المنطقة أو في مفاصلها الأكثر إيلاماً ووجعاً، وفي مناخات كهذه خرجت «قيادة» القرضاوي كفرصة سانحة يمكن لها أن تنقل المشروع إلى ضفاف الواقع.
على خلفية الصورة الضبابية التي عمت الأوساط الأميركية غداة أحداث 11 أيلول 2001 تجاه الإسلام السياسي، منع «الشيخ» من دخول الولايات المتحدة وبريطانيا عام 2004، لكن الظروف تغيرت بعد وصول الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما إلى السلطة في واشنطن، حيث ستصنفه مجلة «فورين بوليسي» عام 2008 على قائمة أكثر «20 شخصية عالمية مثقفة»، كان ذلك التصنيف الذي تزامن تقريباً مع نشره على موقعه «إسلام أون لاين» كتاباً لمحمد جمال حشمت جاء فيه أن «مشروع الإمام حسن البنا هو المشروع السني الذي يحتاج إلى تفعيل»، وكلا الأمرين، التصنيف والمشروع، كانا مقدمة، أو نذيراً، لما ستشهده المنطقة بدءاً من أواخر عام 2010 وربيع العام الذي يليه.
في الفقه، قال «الشيخ» إن «نقد الجماعة (الإخوان المسلمين) لا يعني نقد الإسلام وأحكامه وشرائعه»، وهذا وحده كاف ليثير كثيراً من إشارات الاستفهام حول طبيعة العلاقة القائمة بين «الجماعة» وبين الشريعة الإسلامية، وبعض تلك الإشارات، يحمل بين ثناياه شكوكاً حول الفتاوى الصادرة عنها استناداً للشريعة الإسلامية.
في السياسة، جهد نحو الجمع بين السلفية والتجديد عبر الموازنة بين الثوابت والمتغيرات، حيث ستنتج العملية عنده، أي محاولة تشكيل الجسر الرابط، نهجاً «تفكيكياً» شبيهاً بذاك الذي اعتمده ابن تيمية الذي لا تزال آثاره تنخر إلى اليوم في عمق وأطراف النسيج الإسلامي.
سورياً، قال «الشيخ» إن «القوى الأجنبية هي سلاح سخّره الله للانتقام من (الرئيس) بشار الأسد»، وإن «الله وملائكته يساندون (الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان»، وإنه أفتى بـ«الجهاد في سورية وليبيا، ولن يفتي بالجهاد في فلسطين لأن اليهود هم أهل كتاب وتسامح»، وسيل الفتاوى كان في هذا السياق لا ينقطع تزامناً مع امتداد اللهيب السوري الذي وصل أواره حينذاك إلى مديات تهدد باتساع رقعة النار لتجتاح المنطقة برمتها، الأمر الذي استدعى وضعية «نصف فرملة» تمثلت في تسليم حمد بن خليفة السلطة لابنه تميم في الدوحة أيار من عام 2013، ومعها بدأت نجومية «الشيخ» تخبو على وقع خبو الدور والأهداف.
تضعضع مشروع «الشيخ» في محطــة 3 تموز 2013 المصرية، لكنه تلاشى في محطة 30 أيلــول 2015 السورية، والسنوات السبع التي عاشها بعد هذه الأخيرة، كرسها لمعاينــة أيــن أخطــأ؟ وأيــن أصاب؟ والراجح أن النتيجــة جــاءت صفــراً في المعاينة الأخيرة، فكان قرار الجلـوس في الظـل إلى أن تحــين ســاعة الرحيــل.